المكتبات الأندلسية : جسورٌ بين الثقافات

المكتبات الأندلسية : جسورٌ بين الثقافات

 

 

الأستاذ الدكتور بشار خلف عبود

جامعة الأنبار، كلية الآداب، قسم اللغة العربية

    تُعَدُّ المكتبات بشكل عام وجهًا من وُجوه الإبداع الحضاري، ومَعْلمًا من معالم الثقافة، وضربًا من ضُروب المعرفة. إذ كانت _ ولما تزلْ _ صدًى للحضارة الإسلامية التي هي حضارةُ كُتبٍ ومكتبات. فلا حضارة بغير علم، ولا علم بغير كتبٍ ومكتبات .

    وعلى الرغم من الأهمية البالغة التي تمتعت بها المكتباتُ في الغرب الإسلامي وتحديدًا بلاد الأندلس، إلا أنَّها لم تحظَ بعناية الباحثين واهتمامهم كتلك التي حظيت بها المكتباتُ في المشرق العربي الإسلامي . وعليه فإنَّ مقالًا مُوجزًا كهذا من شأنه أنْ يعيدَنا إلى ماضينا التليد الذي إذا ما تغلغلنا في أعماقه فإنه _ بكل تأكيد _ سيقف حائلًا دون التفريط بحاضرنا والاستهانة بمستقبلنا.

 لقد اكتسبت المكتباتُ في الأندلس أهميتَها من تنافس الأمراء والخلفاء فيما بينهم حول إنشائها في قصورهم . إذ حَرَصوا على تزويدها بالكتب القيمة، وتوفير المخصصات المالية لذلك. كما أنهم فطنوا إلى أنَّ الإشرافَ عليها لم يكن يمثل إشرافًا إداريا فحسب، وإنما هو نشاطٌ وحركةٌ علميةٌ في المقام الأول .

    ونظرًا لذلك فقد تأصَّلتْ في الشعب الأندلسي بشكل عام _ سواء أكانوا حُكامًا أم محكومين _ هواية جَمْع الكتب واقتنائها حتى تنوعتْ تلك المكتبات وتعددتْ، فكانت المكتبات الخلافية والخاصة والعامة والملحقة بالمساجد وغيرها . ولعلَّ مناطَ الاهتمام بهذه المكتبات الأندلسية تجلَّى من خلال أثرين :

الأول : داخلي تمثل بالأدوار والغايات الرئيسة التي أدَّتها ، وهي لا تعدو أنْ تكونَ أدوارًا وغاياتٍ تعليميةً تربويةً ودينيةً واجتماعيةً وسياسيةً .

الآخر : خارجي تمثل بأثرها الحضاري الممتد إلى أوربا، وهو أثرٌ لم ينتهِ بعد . إذ نجده ماثلًا في الفنون والصَّنائع والعمارة والآثار الأخرى . وما مكتبة الأسكوريال الواقعة بالقرب من مدينة مدريد الإسبانية إلا واحدة من تلكم المكتبات والصُّروح الملكية الأوربية التي حفظت لنا ذلك التراث العربي الثر الذي استمر على ما يربو على الثمانية قرون .

     أما مراحل التأثر والتأثير التي أدَّت بالغرب المسيحي إلى أنْ يستلهمَ فكرةَ المكتبات الأندلسية وينقلَ عنها مختلف العلوم والمعارف فقد مضت في ثلاثة أشواط : الأول تجسد عن طريق البعثات الأوربية العلمية التي كانت تفد إلى الأندلس بشكل متواتر وفي أوقات مختلفة. والثاني : ازدهار حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات اللاتينية والإسبانية ، فضلا عن إنشاء مراكزَ مهمة للترجمة كمركز طُليطلة الشهير بأعمال الترجمة ، ومركز مرسية الذي تمَّ فيه نقلُ كثيرٍ من الكتب العربية إلى اللغات الأوربية منها كتاب ( كليلة ودمنة ) وغيرها من كتب الأمم الأخرى ومصادرهم ومخطوطاتهم . والثالث مَثَّلَ القُرونَ الثلاثةَ الأخيرةَ من السِّيادة العربية في الأندلس، إذ اتُصِفَ هذا العصر بالقبول الأعمى لكل ما هو عربي، والنظر إليه بوصفه حجة نهائية .

وهكذا ارتوى الأوربيون من مَعين تراثنا العربي الإسلامي المتمثل بالمكتبات الأندلسية، وأقاموا على أساسها جسورًا معرفية وحضارية وثقافية بشكل ضَمن لهم تقدُّمَهم وصحوتَهم الفكرية، وهي صحوةٌ امتدَّ أثرُها إلى يومنا هذا .