نظرية المواضعة والاصطلاح ، والنظرية الغريزية من نظريات نشأة اللغة

نظرية المواضعة والاصطلاح ، والنظرية الغريزية من نظريات نشأة اللغة

أ.د. حليم حماد سليمان

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة جامعة الأنبار 

نظرية المواضعة والاصطلاح : تقوم على فكرة أنّ اللغة هي من صنع الإنسان وذلك بالتواضع والاتفاق والاصطلاح على ألفاظها ومدلولاتها ، ومن أصحاب هذه النظرية الفيلسوف اليوناني ( ديموكريت ) ومن القائلين بها في العصور الحديثة الفلاسفة الإنكليز أمثال : آدم سميث ، و ريد ، ودوغالد ستيوارث.

أمّا ابن جني فقد كان حائراً بأن يقول : هي توقيفية من خلال النصوص التي يصعب دفعها ، والاصطلاحية من خلال الفكر والتأمل.

أمّا أبو بكر الباقلاني ( ت402هـ) فإنّه يقول : يجوز أن يثبت توقيفاً ، ويجوز أن يثبت اصطلاحاً ، ويجوز أن يثبت بعضه توقيفاً وبعضه اصطلاحاً والكل ممكن .

ومن الذين جمعوا بين الاتجاهين : الأخفش وأبو علي الفارسي والراغب الأصفهاني ، فتكون اللغة من عند الله تعالى ، ويجوز أن يكون الله تعالى قد مكّن آدم من أن يتواضع على اللغة فيكون ابتداء اللغة من الله والتتمة من الناس.

أدلة القائلين بالاصطلاح :

1-  إنّ أصل اللغة لابد فيه من المواضعة ، وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فأكثر ، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء التي في الكون ، فيضعون لكل شيء سمةً تسمه وتبينه ، فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم فقالوا : إنسان ، إنسان ، إنسان ... فإذا سُمِع هذا في أي وقت عُلِم أنّ المراد به هذا المخلوق .

2-  وقالوا : إنّ المواضعة لا تكون من الباري عز وجل ؛ لأنّها في رأيه تقتضي الإيماء والإشارة ، وذلك لا يجوز أن ينسب إليه تعالى على هذا -فيما يرون- التوقيف.

3-  وقالوا أيضاً : لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت بعثة الأنبياء على اللغة ، ولكن هذا لم يحدث ، بل الذي حدث العكس ، وهو تقدم اللغة على بعثة الأنبياء ، بدليل قوله تعالى :(( وَما أرسَلنا من رسولٍ إلّا بلسانِ قَومِهِ))إبراهيم :4.    

الموقف من النظرية :

استضعف الدكتور علي عبد الواحد وافي هذه النظرية ؛ لكونها تتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية التي لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها فضلاً على أنّ التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون ، فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.

ومن العلماء المحدثين الذين وقفوا ضد هذه النظرية الفرنسي ( رينان ) في كتابه (أصل اللغة) إذ قال : إنّ اللغة غريزة زود بها النوع الإنساني للتعبير عن المدركات الحسية كسائر الغرائز الأخرى.

ومن أقدم القائلين بهذه النظرية عبّاد بن سليمان الصيمري (ت250هـ) ، ومن مؤيديها ابن جني إذ صرح بقبولها قائلاً :" وذهب بعضهم إلى أنّ

أصل اللغات كلها إنّما هو من الأصوات المسموعات ، كدويّ الريح ، وحنين الرعد ، وخرير الماء ... ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد"وهذا هو باب ( إمساس الألفاظ أشباه المعاني).

ومن أنصار هذه النظرية أيضاً العالم الإنجليزي ( وتني ) والعالم العربي الدكتور إبراهيم أنيس ، والدكتور صبحي الصالح.

  النظرية الغريزية  يعد العالم الألماني ( ماكس مولر) ، والفرنسي ( رينان ) من أشهر القائلين بهذه النظرية ، وملخصها : أنّ اللغة نشأت بفضل غريزة خاصة زُوّد بها جميع أفراد النوع الإنساني كانت تحمل كل فرد على التعبير عن مدرك حسي أو معنوي  بكلمة خاصة به ، وأنّ غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة كانقباض الأسارير وانبساطها ، ووقوف شعر الرأس ، والضحك ، والبكاء وغيرها ، كلما قامت به حالات انفعالية معينة كالغضب ، والخوف ، والحزن ، والسرور .

ويستمد ماكس مولر أدلته في تأييد هذه النظرية من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية.

وقد رأى بعض المحدثين أنّ هذه النظرية فاسدة والسبب يكمن في :

1-  إنّها لا تحلّ شيئاً من المشكلة التي نحن بصددها وهي مشكلة البحث عن العوامل التي دعت إلى ظهور اللغة في أصوات مركبة ذات مقاطع متميزة الكلمات ، والكشف عن الصورة الأولى التي ظهرت بها هذه الأصوات بل وضعت مكانها مشكلة أخرى هي الغريزة الكلامية .

2-  ما تقرره هذه النظرية يعد من قبيل تفسير الشيء بنفسه.