ابن جَلَنْك ... الشاعر الثائر من العصر الوسيط بحلب.

ابن جَلَنْك ... الشاعر الثائر من العصر الوسيط بحلب.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة  - جامعة الأنبار

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين ، والحمد لله في الدارين والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله وصحبه الغرّ المنتجبين ، وبعد ،

هذا شاعرٌ حُقّ أن يقال له شاعر ، على الرغم من قلة النصوص الشعرية التي وصلت إلينا منه . ففي شعره سمات التأثر والتعالق النصي بين النص الشعري والنص القرآني الكريم ، والنص الشعري الذاتي والنص الشعري التراثي من العصر العباسي ولكبار شعراء هذا العصر ، كما سيلحظ القارئ لشعره من خلال مقالي المتواضع البسيط هذا عن الشاعر ابن جلنك وشعره القليل .

ويبدو شاعرنا هذا ثائراً على أوضاع الظلم التي جرت في عصره وعاشرها عن كثب خلال حياته التي قيل عنها أنه اشترك في قتال التتر في حلب فأسروه وقتلوه سنة 700 للهجرة ! ومن هناك كان شاعرنا ابن جلنك ثائراً في حياته شجاعاً لا يرضى بالذل والخسف والهوان، وهو كذلك في مقطوعاته الشعرية صاحب النفس العالية الشامخة حتى مع الأوصاف والملح والنوادر التي نظمها، وكثيراً ما عُرف بها.

أما عن باقي تفاصيل حياته ، فهو أبن جلنك وليس أبا جلنك كما ذكر الصفدي في كتابه (الوافي بالوفيات) ، واسمه الكامل : الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر ابن جلنك الحلبي . تطوّف في البلاد زار الموصل الحدباء ومرَّ بدمشق ومدح شمس الدين أحمد بن خلكان (ت681ه)، في إحدى توليتي الأخير لمهنة القضاء فيها. ومن ثم عاد إلى حلب وقُتل في حادثة أسره ... كما ذكرت آنفاً.

كان ابن جلنك شاعراً ظريفاً مرحاً يحب النادرة والفكاهة ، وكان مدمناً على نظم المقطوعات الشعرية الوجدانية ولاسيما في الغزل ، وله في مقطوعاته بعض الأوصاف والتصوير لمظاهر الطبيعة ، وهو ميّال إلى استعمال التورية في بعض غزلياته في المذكر كما سنأتي إلى الاستشهاد بها وتحليلها للقارئ الكريم . وأرى شعره في النسيب يذكر أماكن المعشوق ولو تلميحاً ( للأنثى والذكر على حد سواء) ، كما إن في شعره الغزلي وحتى في شعره الوصفي بعض مظاهر الحزن والشكوى مما عرفه في حياته من ظلم واستبداد وطغيان الأقوام العاتية على أمة العرب وتراثها وفكرها ، وهو ما يؤرق كل مسلم مهما كان ومن أينما كان ... وكيفما كان .

إذا وصلتُ إلى أشعاره مفتشاً عن موضوعاتها وأغراضها الشعرية ، رأيت المستملح منها والظريف وما يُشغل القارئ بالتفكير والتأمل حين يسمع بعض هاتيك الأشعار لابن جلنك . ولعلّ من ذلك قوله في لغز من اسمه مسعود بين الناس. وهو في هذه المقطوعة يصف هذا الاسم وصفاً مقرّباً محبباً إلى النفس، ويأتي بدلالات الألفاظ ليصل إلى ذهن القارئ ويستفزه ويشغل تفكيره لإيجاد الحل . فلنتأمل معاً في لغز ابن جلنك ولنجد مقومات اسم مسعود من مقطوعته الشعرية التي يقول فيها :

اسمُ الذي أهواهُ في حروفهِ                                  مسألةٌ في طيّها مسائلُ

خمساهُ فعلٌ وهو في تصحيحهِ                             مبيّنٌ والعكسُ سمٌ قاتلُ

تضيء بعد العصر إن جئت بهِ                            مكررّاً من عكسك المنازلُ

وهو إذا صحّفته مكررّاً                                     فاكهةٌ يلتذُّ منها الآكلُ

وهو إذا صحّفته جميعَهُ                                    وصفُ أمرئٍ يعجبُ منهُ العاقلُ

وفيه طيبٌ مطربٌ وطالما                                هاجتْ على أمثالِهِ البلابلُ

وله في الغزل المستملح ، وقد غاص في كنه دلالات الالوان والموحيات بها في نتفة شعرية أُخذت منه من قبل أحد المشايخ في الأدب واللغة فكتب فيهما أي: في بيتي النتفة الشعرية هذه كراساً كاملاً في البديع. فيا عجباً له من شعرٍ يقلد ويتبع على قلته ، ماذا لو كان كثر وشاع . يقول شاعرنا ابن جلنك في نتفته الشعرية الغزلية هذه :

لا تحسبنَّ  خضابها النامي على ألــــــــــــــــــــــ             قدمينِ بالمتكلّفِ المصنوعِ

لكنها بالهجرِ خاضت في دمي                                 فتسربلت أقدامها بنجيعي

هلّا أبصرت (تسربلت) هنا ؟! كيف عبّرت ، وآثرت بالتعبير عن مشاعر الذات تجاه الآخر المحبوب ، ومتى؟ بعد الهجر والخوض في دم المحب! ولك أن تتصور عمق شعور هذا المحب وشدة مصيبته على عادة العشاق ومصراعهم في الغزل والغرام .

وله من اخرى واستعمل فيها التورية بالأماكن المقدسة المشعرة بالحرمة والتعبد عند سائر المسلمين . وهي في الغزل الغلماني فما أبهى هذا التناسق في الدلالة والبديع ، وما أشدّ تعبيره عن شدة عشقه لهذا الحسن للفتى وأيّ حسن ! قال في مقطوعة شعرية في هذا الغرض :

جعلتُكَ المسجدَ الأقصى وموطنَك ألــــــــــ           بيت المقدّس من روحي وجثماني

وقلبُكَ الصخرةُ الصمّاءُ حين قستْ                قامتْ قيامةُ أشواقي وأشجاني

أما إذا كنتَ ترضى أن تُقاطعني                      وأن يزوركَ ذو زورٍ وبهتانِ

فلا يغرُّنك نارٌ في حشاي فمن                 وادي جهنمَ تجري عينُ سلوانِ

من البداهة بمكان أن المفارقات هنا كثر ، ساعدت التورية إلى حد بعيد في تصورها والتفكير فيها عند قارئ شعر ابن جلنك الحلبي ولاسيما في هذه المقطوعة ولاسيما في خاتمته أيضاً ، وهي أمور فنية تشاكلت وأهمية المكان المقدّس ومضمونه الديني الكبير مع مشاعر الشاعر في الغزل بالمذكر، وما أجمل الجميع بين الأثنين في نصٍ شعري سُبك بهذا السبك التركيبي اللفظي التصويري والموسيقي البديع.

وله من مقطوعة شعرية أخرى ، في الغرض نفسه وفي السبك نفسه ولكن بوزن شعري آخر ، وبقافية متيمة للشاعر وللشعراء من قبله في مثل هذا الغرض :

أيا قُدسَ حسنٍ قلبُهُ الصخرةُ التي                        قستْ فهي لا ترثي لصبٍّ متيمِ

ويا سؤلي الأقصى عسى بابُ رحمةٍ                        ففي كبد المشتاقِ وادي جهنمِ

وله صورة أعجوبة في زمنه على ما أتوقع وأظنُّ أن القارئ يحمل معي هذا المعنى وهذه المشاعر للنتفة الشعرية عند ابن جلنك حين يسمعها . وفيها يؤثر الشاعر ابن جلنك الحلبي مظاهر الطبيعة الساكنة من البحر والموج وحركتهما ليصيح بالناس تعجباً ودهشةً لهذا الفتى الشادن الصافع براحته وغنائه الناس ومسامعهم براحة من مطر شديد لا يخلو من عقاب ، شأن ذلك البحر المتلاطم الذي لا يخلو من عُجاب في الحركة والتنظيم بين المد والجز ، وبين السعة والضيق ... يقول ابن جلنك في مقطوعته الشعرية هذه :

وشادنٍ يصفعُ مغرىً بهِ                                        براحةٍ أندى من الوابلِ

فصحتُ في الناسِ : ألا فأعجبوا                          بحرٌ غدا يلطمُ في الساحلِ

السرد الذاتي ببوح المشاعر الآنية المتأزمة كان من بين العناصر البنائية التي استعملها الشاعر ابن جلنك الحلبي في مقطوعة غزلية في شعره الواصل إلينا. وهذه المقطوعة لا تنسى أن تضيف عنصر طيف الخيال المشوق إلى عناصرها ليعبر به الشاعر عن ذلك الأرق والضعف لحالة العاشق الذي على ما يبدو أنه خرج صفر اليدين من مغامرته هذه ، ولله درَّهُ . يقول في مقطوعته الشعرية هذه :

ماذا على الغُصُنِ الميّالِ لو عطفا                   ومالَ عن طُرق الهجرانِ وانحرفا

وعاد لي عائدٌ منهُ إلى صلةٍ                              حسبي من الشوقِ ما لاقيتُهُ وكفى

صفا لهُ القلبُ حتى لا يُمازحهُ                        شيءٌ سواهُ أما قلبُهُ فصفا

وزارني طيفُه وهناً ليؤنسني                          فاستصحبَ النوم من عيني وانصرفا

ورُمتُ من خصرهِ برءاً فزدتُ ضنى ً                   وطالبُ البرء والمطلوبُ قد ضعُفا

حكى الدجى شعره طولاً فحاكمهُ                     فضاع َ بينهما عمري وما انتصفا

وليت شعري إن الزمن لم ينصفك كثيراً ليصل إلينا جلّ شعرك لتكون في المكان المستحق ، والمنزلة الطيبة لما لهذا الشعر من رونق وتصوير وتعبير وتشكيل للمظاهر الطبيعية والألوان والبيان ، فكنت بحقٍ شاعراً ولكن....

ومن شعره ما أختاره له الصفدي في كتابه الشهير في مختارات الوصف والتشبيه ( الكشف والتنبيه على الوصف والتشبيه) ، وهذه المقطوعة لوحة فنية للطيور والثمار والنهر ، وتلفيق البيان مع فنون البديع المنوّعة لتزين هذه اللوحة الفنية بفرشاة المصوّر البارع ابن جلنك الحلبي . وأعتقد أن الشاعر ابن جلنك في هذه المقطوعة كان حلبياً بامتياز إذ عرفت مثل هذه اللوحات الفنية المرسمة بالألفاظ والتركيب والصور القشيبة والإيقاع المؤنس المطرّب عند بعض شعراء حلب في تاريخ الأدب العربي ، في عصر شاعرنا ابن جلنك وفي القرن الذي عاش فيه وقُتل فيه ، أو في القرن الذي يسبقه ويسبقه...

يقول الشاعر ابن جلنك الحلبي في التشبيه والوصف لزهر اللوز وزهر السفرجل :

أما ترى اللوزَ وقد طُرّزت                   مطارفُ الآفاقِ من زهرهِ

كأنه كهلٌ بدا شيبُهُ                           ينظرُ في المرآةِ من نهرهِ

والطيرُ جمامٌ بمنقارِهِ                        يلتقطُ الأبيضُ من شَعرهِ

أو كاتبٌ أحكم انشاءه                         وأعجز الكتّاب في عصرهِ

يُراسلُ الطير بأوراقهِ                          وينثرُ المنظوم  من درّهِ

فنثرُهُ أحسنُ من نظمِهِ                         ونظمُهُ أحسنُ من نثرهِ

هذا الشاعر ابن جلنك الحلبي ، أرجو أني قدمتُ فكرة طيبة للقارئ الكريم عنه وعن شعره ، وأرجو أنه سعُد بما قدمت له من زوايا مخيفة من أدبنا العربي الكريم ولاسيما في عن الشاعر ابن جلنك  وعن عصره الذي يُعرف بغزارة الشعر وكثرة الشعراء وقلة الدراسات إلى يومنا هذا ، والله الموفق.

الكلمات الافتتاحية :أحمد بن أبي بكر الحلبي شهاب الدين أبي جلنك ، الشعر في بلاد الشام ، اتجاهات الشعر العربي في بلاد الشام.