أزمة التراث الجغرافي العربي الإسلامي

أزمة التراث الجغرافي العربي الإسلامي
Share |
2021-10-20

أزمة التراث الجغرافي العربي الإسلامي

أ.د.ضياء خميس علي الدليمي / جامعة الأنبار – مركز الدراسات الإستراتيجية

يعد التراث الجغرافي جزءًا لا يتجزأ من الثقافة والحضارة العربية ، إلّا أن ذلك التراث تعرض إلى تحديات تاريخية أثرت سلبا في مضمونه ومكانته بين أصول المعرفة الإنسانية . وللوقوف على مثل تلك التحديات لابد من معرفة الظروف التاريخية أو الحضارية التي نشأ فيها هذا التراث والمراحل التي اجتازها أثناء تطوره.

عند العودة إلى تشخيص المعارف العربية قبل الإسلام فإنها كانت محدودة وتتمثل في حقول معرفية معينة أهمها اللغة والشعر وأنساب القبائل التي تمثل جانبا من جوانب التاريخ ، إلّا أن حاجة سكان الجزيرة إلى المعرفة الجغرافية الوصفية والفلكية ، ظهرت بداياتها عند انتقال العشائر البدوية في أرجاء الجزيرة الشاسعة إذ لابد من معرفة المسالك الصحيحة إلى مواطن الكلأ ومعرفة مواقع الآبار التي كانت تعد بمثابة مفاتيح الصحراء تلك هي البدايات الأولى لظهور الجغرافية العربية من قبل بعض البدو كجغرافيين محترفون لا يتعدى نشاطهم الجغرافي عن كونهم "أدلاء" يتمتعون ببعض الثقافة الجغرافية المتنوعة ، فقد اهتموا بمعرفة النباتات وحيوانات البادية وبعض الصفات الطبوغرافية للسطح وشيئا من مسارات النجوم والكواكب ضمن مفهوم الجغرافية الفلكية لأن طبيعة حياتهم في الترحال الدائم ليلا أو نهارا صيفا أو شتاء فرضت عليهم ذلك لاسيما وأن سماء المنطقة تميزت ومنذ القدم بصفائها وصحوها معظم شهور السنة ، وأن براعة العرب في الفلك تعود إلى صلاحية البيئة الطبيعية ، وكان للقمر مكانة مهمة في المعرفة الفلكية فقد ميزوا منذ وقت مبكر علاقة القمر مع النجوم في فلكه وحددوا منازلها بـ (120) منزلا سميت بـ (منازل القمر) وأعطي لكل واحد منها اسم عربي خالص ، ومن خلال مراقبة بعض النجوم تمكنوا من التنبؤ بحالة الطقس وتحديد فصول السنة الملائمة للزراعة بالنسبة للمستقرين منهم ، أو ما يسمى بالنوء (جمعها أنواء) .

  يتبين مما سبق بأن المعرفة الجغرافية كانت وصفية وفلكية بسيطة قبل ظهور الإسلام إلّا أن بعد ظهور الإسلام حصل تطور جذري في تلك المعرفة من خلال مجموعة من الدوافع والعوامل أهمها ما يأتي :

1-   الاتصال بالفكر الأجنبي اليوناني والهندي والفارسي عن طريق الترجمة.

2-  اتساع الدولة الإسلامية في نهاية الحكم الأموي حتى بلغت أجزاء واسعة من القارات القديمة الثلاث (آسيا ،أفريقيا وجنوب غرب أوربا) ذلك كان مدعاة لجمع المعلومات عن البلدان الجديدة ليتيسر إدارتها وحكمها ومعرفة خراجها وهذه هي الوظيفة الأساسية للجغرافيا.

3-   ازدهار النشاط التجاري الذي لعب دورا مزدوجا في إثراء المعرفة الجغرافية حتى صار بعض التجار من الجغرافيين البارزين.

 

4-   الفرائض والعبادات الإسلامية التي ساهمت في تشجيع المعرفة الجغرافية الفلكية والوصفية فالصلاة والصوم يتطلبان معرفة جغرافية فلكية لضبط أوقاتها والحج يستثير المسلمين في شتى البلاد الإسلامية لشد الرحال إلى مكة المكرمة فضلا عن اكتساب العلوم الدينية من مصادرها الرئيسية في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وقد أتحف الحج الجغرافية العربية بالعديد من الرحالة الذين أضافوا برحلاتهم ثروة نفيسة إلى جغرافية العصور الوسطى كابن جبير وابن بطوطة .

وتعد كتب هشام بن محمد الكلبي (ت، 820م)، من أهم المؤلفات المبكرة للجغرافية العربية الإسلامية مثل ( كتاب البلدان الكبير ) و ( كتاب البلدان الصغير ) و ( كتاب الأنهار ) و (كتاب الأقاليم ) ومن طلائع الكتب الجغرافية هو (كتاب العجائب) للحسن بن المنذر .

   إن أهم ما يميز الجغرافية العربية الإسلامية هو انتقالها منذ بداية النصف الثاني من القرن الثالث الهجري إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اتصال الفكر العربي بالفكر الأجنبي حيث ترجم الفكر الهندي واليوناني إلى اللغة العربية ، لاسيما آراء بطليموس في الفلك والجغرافية . وفي هذه المرحلة تم التركيز على علم الفلك الذي أصبح هوس الحكام والعلماء من قبل الخلفاء العباسيين منذ عهد الخليفة أبو جعفر المنصور والذي بلغ ذروته على يدي الخليفة المأمون وهو المسئول الأول عن ازدهار هذا النوع من المؤلفات الجغرافية ، التي يمكن عدها بداية الجغرافية الحقيقية .

  تعد الفترة ما بين بداية القرن الرابع الهجري حتى أوائل القرن السادس الهجري ، قمة ما وصلت إليه الجغرافية العربية من ازدهار كما أنها تمثل الشخصية الحقيقية للجغرافية العربية الأصيلة، إذ كانت معلوماتها تعتمد على الدراسة والمشاهدة الميدانية والاختبار الشخصي مما جعلها ذات كفاءة وثقة عاليتين وكانت الرحلة هي الأساس في هذا النوع من الكتابة.

   إن الاهتمام الواسع من قبل الحكام بالجغرافية انعكس سلبا على محتواها ومضمونها فقد انصرف عدد كبير من ذوي الاختصاصات الأخرى لاسيما المؤرخين والأطباء والفلاسفة إلى الكتابة في الجغرافية مما افقدها مضمونها مثل المسعودي وابن رسته. 

 

   ختاما، أن تفكك الدولة الإسلامية منذ بداية القرن السادس الهجري وانحلالها سياسيا ، أدى إلى فقدان المعرفة الجغرافية الصرفة أصالتها وأبعد فقد انصرف الحكام عن تشجيع العلم وتقلصت حدود الدولة الإسلامية وانقسمت إلى إمارات شبه مستقلة ولم يعد هناك حاجة للكتب الجغرافية بالنسبة للحكام ولم يستطع الكتاب اللاحقون من إضافة أي شيء جديد إلى العلم الجغرافي العربي واقتصروا على مهمة الاقتباس من مؤلفات السابقين وهذا السلوك فعال إلى وقتنا هذا ، وتنوعت الأنماط الجغرافية والفروع إلّا أن التركيز كان على المعاجم الجغرافية والموسوعات والرحلات وهكذا بدأت شمس الجغرافية العربية بالأفول إذ لم تظهر مؤلفات جغرافية باللغة العربية سوى بعض المصنفات التي تنتمي إلى نمط الجغرافية الملاحية أو الجغرافية البحرية وبعدها كانت باللغتين الفارسية والتركية.

 

 
عدد المشاهدات : 84