الجغرافية بين العلم التطبيقي والوظيفة الاجتماعية

الجغرافية بين العلم التطبيقي والوظيفة الاجتماعية
Share |
2023-01-16

مقال بعنوان : الجغرافية بين العلم التطبيقي والوظيفة الاجتماعية

 

أ.د. ضياء خميس علي

مركز الدراسات الاستراتيجية

جامعة الأنبار

    تتعرض الجغرافية وبمختلف فروعها لاسيما البشرية منها لصراع كبير بينها وبين مختلف العلوم الأخرى يصل إلى مستوى صراع وجود وبقاء إلى درجة فقدان هويتها المنهجية بين العلوم الأصولية والعلوم الاجتماعية ، وبالتالي فإن حالة التخبط والقلق التي يعيشها الجغرافيون في هذه المرحلة يعود إلى افتقار الجغرافية إلى تحديد واضح لمناهجها وموضوع بحثها كما أن غيابها عن الساحة العملية قد عزز الرأي القائل بعدم جدوى مشاركتها في عمليات التخطيط والتنمية.
  إن معظم الذين تصدوا لهذه المشكلة ، وتناولوا بيان مفهوم الجغرافية ومناهجها وأهدافها المختلفة ، وسخروا جزء كبير من دراساتهم وبحوثهم فإنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم في فخ الضياع والانتقاص وأصبحت دراساتهم جزء من هذه المشكلة . مما لا شك فيه أن انتشار الأفكار في الوقت الحالي التي تقول بعدم فائدة خريجي الجغرافية لدى المجتمع ستنعكس حتما على توجه الطلبة الخريجين من التعليم الثانوي إلى الكليات في العزوف عن هذا التخصص المهم  وسيؤكد على التراجع في الأهمية الجغرافية وذلك سيعزز الانطباع السائد لدى العامة أن دورها يكاد أن يكون قاصرا على الناحية الثقافية ومعرفة أسماء الأماكن وإن دورها في الجوانب التطبيقية مشكوك فيه من الناحية العلمية . ويعود جهل المجتمع بأهمية الجغرافية إلى عدم معرفة الجغرافيين أنفسهم بحقيقة المناهج التي يحسنون التعامل مها فضلا عن عدم وضوح فكرة التفريق بين المنهج والأداة أو الأسلوب البحثي وإن أي علم لابد له من موضوع يختص به دون سواه لا يعالجه علم آخر ، ومنهج يعالج به مشكلاته منفردا أو مشتركا مع غيره وهدف يسعى إلى تحقيقه . يتبين أن المناهج ليست حكرا على علم محدد دون آخر ومثلها مثل الإحصاء الذي يستخدم في الجغرافية وغيرها من العلوم ذات الصلة .

المنهج : يمثل رؤية عامة أو خطة عمل متكاملة ، أو هو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة بواسطة مجموعة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحديد عملياته .
 
تهدف هذه الورقة إلى بيان مكانة علم الجغرافية وموقعه من الثورة التكنولوجية والعلمية والكمية والرقمية المعاصرة ، فضلا عن تحديد ما طرأ عليه من تغيرات شملت أهداف هذا العلم ومحتواه ومناهجه ونظرياته . هذا يعني لابد من وقفة لرصد وتحليل الاتجاهات الجغرافية المعاصرة.
وهنا لابد من تمييز اتجاهين جغرافيين عالميين أولهما تمثله المدرسة الجغرافية السوفيتية التي وإن كانت لم تبتعد كثيرا عن الاتجاه الكمي ، فهي تتشابه في بعض الجوانب مع المدرسة الغربية ، ولكنها تتطور بأسلوب متغاير ، فللسوفيت أفكار حازمة عن الدولة والاقتصاد والأرض والسكان ، لذلك تطورت الجغرافية السوفيتية بنجاح على هذا الأساس الميثودولوجي المعقد المبني على أسس الفلسفة الماركسية اللينينية ، وهذا يعني توافر الظروف الملائمة لظهور وتطوير الاتجاهات العديدة للبحث العلمي التي ظهرت في الحياة نتيجة للنموذج العام للتطور الاجتماعي الحاصل في السوفيت والذي لا يختلف كثيرا عن النموذج الحالي في روسيا .
   أما الاتجاه الثاني فتمثله المدارس الجغرافية الغربية التي ما زالت تدعم استخدام الأساليب الرياضية والإحصائية على النحو الذي جعلها تبالغ في المعالجات الرياضية لخصائص المكان .
  هذا يعني أن الجغرافية الروسية تعد مرتبطة وملاصقة الاتصال بالمجتمع وُظِّفت لخدمته وموجهة نحو بلوغ أهداف محددة في إطار الخطة المركزية لتطوير المجتمع بأسره ، في حين فقدت الجغرافية الغربية تلك الأهداف المجتمعية المباشرة وغلبت عليها صفة التجريب العلمي باستخدام أساليب جديدة .

إن الجغرافية الغربية ليست لها أهداف مجتمعية مباشرة كما لدى المعسكر الشرقي متمثلا بروسيا وتغلب عليها صفة التجريب العلمي ووضعها موضع التطبيق وكأنما كل حالة من حالاتها بمثابة قانون لا يأتيه الباطل ولابد من تطبيقه في أماكن أخرى وكما يحصل مع النظريات الخاصة بتنظيم المكان لديهم وهذا ما يسمى بدراسة الحالة (case studies) وهي لهذا تسفر عن بحوث مبعثرة ومتنوعة لا تنتظم في خطط محددة الأهداف والمقاصد .
   فالمدرسة البريطانية على سبيل المثال تختلف في التزامها بالبحث العلمي في المجالات الأساسية للعلم بعيدا عن الجوانب الأيدلوجية ، وقد انعكس ذلك الإفراط في الاهتمام بالدراسات الجيومورفولوجية والاقتصادية والتاريخية مع الاعتراف بأن تلك الدراسات لا يتم البحث فيها بمعزل عن فروع الجغرافية ذات الصلة ضمنا .

 
عدد المشاهدات : 45