تقنية «كريسبر» الجينية بين ثورة في عالم الغذاء والمخاطر المحتملة

تقنية «كريسبر» الجينية بين ثورة في عالم الغذاء والمخاطر المحتملة

 تقنية «كريسبر» الجينية بين ثورة في عالم الغذاء والمخاطر المحتملة

أ.م.د. محمود علي شاهر الشاهين

maalshaheer@uoanbar.edu.iq

  الصفحة الرسمية الالكترونية للكاتب

المقص الجيني: أحدث ما تم التوصل إليه :

في 7 أكتوبر 2020 ، منحت جائزة نوبل في الكيمياء للبروفيسورة إيمانويل شاربنتييه ، مديرة وحدة ماكس بلانك لعلوم مسببات الأمراض ، في برلين ، ألمانيا ، وللبروفيسورة جينيفر دودنا، من جامعة كاليفورنيا ، بيركيلي ، الولايات المتحدة الأمريكية "لتطوير طريقة للتحرير الجيني" حيث أن اكتشافهما لتقنية كريسبر- كاس9 "المقص الجيني" هو أحد أهم التطورات العلمية في القرن الحالي حتى الآن . فهذه التقنية لديها القدرة على تحويل الزراعة والطب ، بل وحتى علاج بعض الأمراض الوراثية مثل داء هنتنغتون والتليف الكيسي وبعض أنواع السرطانات . لكن وفقاً لاعتراف الباحثتين ذاتيهما ، تثير هذه التقنية أيضاً مسائل معقدة فيما يخص الناحية الأخلاقية والسياسية والبراءات ، لم تكتشف إلا مؤخراً فقط .

 

وكان إنجازهما الرئيسي هو تحديد امكانية برمجة كريسبر، وهو عبارة عن آلية دفاع طبيعية موجودة في الحمض النووي للبكتيريا ، وكاس9، وهو عبارة عن إنزيم ، لقص جزئية من جزئيات الحمض النووي في أي مرحلة , وكريسبر CRISPR هي الأحرف الأولى من العبارة الإنكليزيةClustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats "التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد" وهي نوع من تسلسلات الحمض النووي الريبوزي المتكررة , وكاس هو البروتين المرتبط بكريسبر وهو بروتين مضاد لفيروسات الحمض النووي الريبوزي . وهناك 93 نوعاً منه ، أحدها كاس 9. أوضح البروفيسور كليس غوستافسون، رئيس لجنة نوبل للكيمياء ، قائلا "أتاح استحداث هذه التكنولوجيا للعلماء تعديل سلاسل الحمض النووي الريبوزي في  مجموعة كبيرة من الخلايا والكائنات العضوية . فلم تعد المناورات الوراثية مأزقاً تجريبياً . فتكنولوجيا كريسبر - كاس 9 تستخدم اليوم على نطاق واسع في العلوم الأساسية ، والبيوتكنولوجيا ، وفي تطوير العلاجات المستقبلية."

 وقد أثيرت مسائل أخلاقية حول هذه التقنية في  نوفمبر  2018 ، حين أعلن العالم الصيني هي جيانكو أنه استخدم  تقنية كريسبر- كاس9 لتخليق بنتين توأم معدلتين وراثياً . وأدان علماء آخرون البحث- بمن فيهم البروفيسور دودنا- التي طارت فوراً إلى هونغ كونغ للتحقيق في ذلك . ومن ثم فصل جيانكو لاحقاً من جامعته ، وفرضت عليه غرامة ، وسجن لمدة ثلاث سنوات.

محاصيل بلا جينات دخيلة

تُستَحدَث المحاصيل المُحَررة جينيًّا باستخدام تقنيات يُمكِنها إدخال تعديلات طفيفة على تسلسلات الحمض النووي، مثل تقنية «كريسبر– كاس9»  وتختلف تلك التقنيات عن تلك التي تُنتج فيها المحاصيل عن طريق التعديل الجيني ، الذي ينطوي عادةً على إدخال جينات كاملة أو تسلسلات حمض نووي من أنواع نباتية أو حيوانية أخرى . مع ذلك ، خضع التحرير الجيني في الصين للتشريع نفسه الذي يشمل الكائنات المُعَدَّلة جينيًّا. وتتطلب المحاصيل المُعَدَّلة جينيًّا تجاربَ ميدانية مكثفة وواسعة النطاق قبل اعتماد استخدامها . مع ذلك ، فالمبادئ التوجيهية الجديدة المتعلِّقة بما لا يعدّ خطرًا على الصعيد البيئي أو على صعيد سلامة الغذاء من المحاصيل المُحرَّرة جينيًا، لا تشترط إلا توفير منتجي تلك المحاصيل البيانات المُختَبَريّة وإجراء تجارب ميدانية صغيرة النطاق, وقد بدأ باحثون يخططون بالفعل لتوجيه مزيد من أبحاثهم لتنصبَّ على استحداث محاصيل جديدة تُحقِّق منفعة كبيرة للمزارعين . على سبيل المثال ، يقول جيان كانج تشو، اختصاصي علم الأحياء النباتية الجزيئي ، إنه يتطلَّع إلى استحداث أصناف محاصيل مُحَرَّرة جينيًّا تتسم بارتفاع غلتها وبقدرتها على التكيُّف مع التغيّر المناخي وباستجابة أفضل للأسمدة . من بين مجموعة من محاصيل المستقبل التي يعمل العلماء حالياً على إنتاجها، توجد مجموعة متنوعة من محاصيل القمح المقاومة للعفن ، ونوع رائع وجديد من الذرة القادرة على تحمل الضغوط البيئية . ويتم تطوير الكثير من تلك المحاصيل باستخدام تقنية «كريسبر - كاس 9» ، والتي تتيح للعلماء تعديل التركيب الوراثي للنباتات وأشكال الحياة الأخرى ، بدقة أكثر من أي وقت مضى ، وهو ما يعني أنهم قادرون على تحديد خصائص محددة للغاية , وقد بدأ آخرون استحداث تطبيقات للتقنية لاستخدامها في إنتاج أرز يتمتَّع بخصائص عطرية قوية ، وفول صويا يحتوي على مستويات مرتفعة من أحماض الأولييك الدهنية ، التي قد تُنتج زيتًا منخفض الدهون المشبعة , وقد يكون قمح فريق جاو المُقاوِم لمرض البياض الدقيقي من أوائل ما يُعتَمد من تلك المحاصيل . ففي عام 2014 ، استعانت هي وفريقها بالتحرير الجيني لتعطيل جين يجعل القمح عُرضةً للإصابة بهذا المرض الفطري ، لكنهم وجدوا أن هذا التعديل الجيني أعاق نمو النبات أيضًا . وحتى لو أن "كريسبر" كانت ببساطة طريقة جديدة لإنشاء كائنات معدلة وراثياً ، لن يجعلها ذلك تقنية خطيرة في حد ذاتها . في مقدور الكائنات المعدلة وراثياً أن تعود بالخير الوفير، عبر مثلاً إيجاد منتجات صديقة للانبعاثات تعجز "كريسبر" عن الإتيان بمثلها. في الحقيقة ، يتفوق التعديل الجيني على التحرير الجيني في إنتاج أغذية مقاومة للآفات والأمراض ، ما يزيد الغلال ويسمح بإنتاج كميات أكبر من الغذاء على مساحة أقل من الأراضي ، ويحد من تدمير الغابات . مثلاً ، أدى استخدام المحاصيل "بي تي"Bt crops  المقاومة للحشرات والمعدلة وراثياً بعدما أضيفت إليها بروتينات من بكتيريا قاتلة للآفات تسمى "العصوية التورنجية" (Bacillus thuringiensis) إلى تحقيق زيادة في المحاصيل بمعدل 25 في المئة على مستوى العالم . كذلك يتميز التعديل الجيني بكونه أكثر فاعلية مقارنة مع التحرير الجيني في إنتاج محاصيل مقاومة لمبيدات الأعشاب ، ما يعزز مكافحة الأعشاب الضارة ويعود بغلة أكبر . أضف إلى ذلك أن النباتات المعدلة وراثياً القادرة على مقاومة الحشرات وتحمل مبيدات الأعشاب قد قلصت من استخدام الجرارات الزراعية في رش المزروعات بالمبيدات وحراثة الأراضي ، ما أسفر عن تراجع كبير في انبعاثات غازات الدفيئة السنوية . بل إن الحد من استخدام تلك الآلات سنوياً يعادل التوقف عن استعمال 1.6 مليون سيارة . عليه ، يبدو جلياً أن على الدول ألا تترك فرصة تعزيز المحاصيل باستخدام التقنيات الحديثة مرهونة بـ "كريسبر" من دون غيرها , في الولايات المتحدة على الأقل ، لا يعارض السكان الهندسة الوراثية اعتباطياً . خلافاً لذلك ، تشير استطلاعات رأي إلى أن قبول هذه الممارسة يتفاوت بتفاوت الغرض المتوخى . كذلك أشارت منظمات معنية بحماية البيئة إلى أنها منفتحة على الهندسة الوراثية ، بشرط تقديم أسباب موجبة لاستعمالها. من بين تلك المجموعات منظمة حفظ البيئة "نادي سييرا"، التي طالما عارضت جميع الكائنات الحية المعدلة وراثياً ، إذ أشارت أخيراً إلى أنها تتقبل زراعة أشجار معدلة وراثياً من الكستناء الأميركية ، يمكنها أن تساعد في استعادة نوع كان مهيمناً على غابات الولايات المتحدة الشرقية قبل أن يختفي تماماً تقريباً بسبب آفة فتكت به في أواخر القرن التاسع عشر. يؤشر ذلك إلى فرصة متاحة أمام التحرير الجيني . الغالبية العظمى من العالم معنية بتغير المناخ ، شأن معظم المنظمات البيئية . لذا، من الجائز أن يبدوا تأييدهم ، أو أقله قبولهم ، لاستخدام "كريسبر" والأغذية المعدلة وراثياً بغرض خفض انبعاثات الكربون الناتجة من أنشطة الزراعة وتربية المواشي.

الخاتمة

هذه الثورة في اكتشاف تقنية كريسبر والتي هي جهاز مناعي بدائي في البكتيريا يجعلك لا تستطيع ان تتصور ان تجد مختبراً بحثياً في السنوات القصيرة القادمة لا يستعملها او يستفيد منها لكي يجري الابحاث والتجارب بشكل اكثر دقة وسرعة مما كان يأمله لو لم تكتشفه هذه الطريقة الرائعة . لا شك ان كل شخص كان عامي او عالم او باحث او صحفي او مثقف ينظر لهذه التقنية بمنظور خاص به يعكس علمه وخبرته في الحياة وفي مجال عمله وايضاً مواقفه المسبقة من الأبحاث العلمية والعلماء . فهناك المتخوف ، وهناك المحلق بأفكاره وهناك المتوازن وهناك من لا يهتم بهذه الأمور كلها! لكن من المهم ان يكون الطرح والنقاش حول تقنية كريسبر طرحا متوازنا يأخذ في الاعتبار كل الجوانب . فمن لديه تخوف في إساءة استعمال هذه التقنية في امور تتعارض مع اخلاقيات واسس انسانية يجب السماع له وتشريع انظمة تنظم وتشرع لاستعمال امن ومفيد للبشرية . في نفس الوقت على المشرعين والمتخوفين ان لا يشرعوا انظمة وقوانين مكبلة لأيدي العلماء تجهض هذه الانطلاقة وتحد من امكانية استعمالها لعلاج الامراض ورفاهية البشر بتكاليف اقل وبشكل اسرع من لو ترك الامر لتغير بيئي بطيء قد يأخذ سنوات عديدة ، قد يخسر فيها الأنسان ارواح كثيرة او يتكبد خسائر مالية باهضه كان بالإمكان تفاديها لو استعملت تقنية كريسبر. هذه التقنية سوف تغير وجه وخريطة العلاج للأمراض الوراثية وغير الوراثية وستمتد الى اكبر مما تخيلنا في مجال صناعة الادوية والنبات والحيوان وليس خطيئة اذا ما وضع لها تنظيم علمي وأخلاقي ... والله اعلم .