أ.د. محمد عويد جبر عبد الدليمي

أ.د. محمد عويد جبر عبد الدليمي

التعسف في استعمال الحق وادلته 

Abuse of the right and its evidence

أ.د. محمد عويد جبر عبد الدليمي

ed.mohamed.oueed@uoanbar.edu.iq

الصفحة الرسمية للكاتب

تعريف التعسف في استعمال الحق :  هو استعمال الحق المشروع على وجه غير مشروع ، أو يناقض مقصد الشارع من تشريعه .

ينبغي لكل انسان أن يستعمل حقه على ما أمرت به الشريعة الاسلامية، فلا يجوز أن يستعمل حقه على الاضرار بالغير فردا أو جماعة، قصد الإضرار أم لم يقصد.

فقد اهتمت الشريعة الاسلامية قبل القوانين الوضعية بنظرية التعسف في استعمال الحق انطلاقاً من القاعدة الشرعية «لا ضرر ولا ضرار» وقيدت الحقوق الخاصة للإنسان عند استعماله اياها حتى لا يضر الغير، سواء توفرت نية الاضرار، ام لم تتوفر، أو عدم انسجامه مع المصلحة العامة للمجتمع، ويعتبر  التعسف في استعمال الحق خروجاً عن حدود الحق نفسه.

فاستعمال الشخص حقه لمصلحته الخاصة الفردية المشروعة المستندة الى حقه، ولكنها تتعارض مع مصلحة أخرى اكثر نفعا للأخرين(مصلحة عامة) في نظر الشريعة فاستعمال هذا الحق يعتبر تعسفا .

وعدم اعتبار هذه المصلحة عند معارضتها لمصلحة ارجح منها أو مصلحة عامة هو الغاء هذه المصلحة الفردية للشخص ، بل تعود هذه المصلحة للشخص اذا سلمت من معارضتها لمصلحة اولى منها .

واستعمال الإنسان حقه بالإضرار بغيره هو ما يسمى  بالتعسف في استعمال الحق، فإن مارس ما ليس له حقاً فلا يسمى تعسفا  بل يسمى اعتداء على حق غيره، فالغاصب لشيء لا يعد متعسفا، بل يعد متعدياً على حقوق الاخرين، والمستأجر الذي ينتفع بالدار على وجه يضر بالدار، فإنه يعتبر متعسفا في استعمال حقه بالإضرار بالغير .

وليس له إتلاف شيء من أمواله أو تبذيرها في غير الوجه الصحيح؛ لأن ذلك غير مشروع ويعد تعسفاً؛ لأنه اضرار بنفسه وبغيره . 

فالتعسف في استعمال الحق يكون في مخالفة مقصد الشريعة في تشريعاتها ، ومن هذه الصور :

1- استعمال الحق لمجرد قصد صاحب الحق الاضرار بالأخرين؛ لان الحق لم يشرع للإضرار بالأخرين بل شرع الحق لمصلحة معتبرة شرعا. ولا يعتبر الاضرار بالغير مصلحة مشروعة ، ولا مقصد من مقاصد الشرع .

2- استعمال الحق في مصلحة تؤدي الى ضرر اكبر بالمجتمع أو الفرد من المنفعة الخاصة؛ لان من قواعد الشرع ما يغلب ضرره على نفعه لا يعتبر شرعا، فاذا كانت المفسدة اكبر من المصلحة درأنا المفسدة ؛ لانها مقدمة على جلب المصلحة .

3- استعمال الحق اذا ترتب عليه ضرر فاحش بالأخرين ولو من غير قصد الاضرار؛ لانه مخالف لقواعد الشرع بدفع الضرر قبل وقوعه، وبإزالة الضرر بعد وقوعه؛ لأنه مخالف لمقصد الشرع وهو( جلب المصالح ودرء المفاسد ) و( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) .

4- استعمال الحق ذريعة لتحقيق مصالح غير مشروعة، عن طريق التحايل على القواعد الشرعية، كهبة المال مستحق الزكاة ، نهاية الحول لعدم اخراج الزكاة، وبيع العنب ممن يعتقد انه يتخذه خمرا ؛ لان فيه اعانة الى عمل المحرم .

وعليه لا يجوز استعمال الحق في غير المصلحة التي شرعها الشارع ، اي ان الاحكام معللة بمصالح العباد .  

أدلة نظرية التعسف من القرآن والسنة:

الدليل الأول: قال تعالى : ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ? البقرة 233

فالآية تدل على ان ارضاع المولود حق للأم، اذا وافقت الام على نفس ما رضية به الاجنبية من الرزق، فلا يحق للاب ان يجلب اخرى ترضعه .

والآية تفيد وجوب حماية الام والاب من اضرار احدهما بالآخر، وكذلك حماية الرضيع من الاضرار به .   

الدليل الثاني : قول الله تعالى: ? وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ? [البقرة: 231].

وجه الدلالة في هذه الآية الكريمة نهى الله سبحانه وتعالى عن استعمال الشخص حقه في مراجعة زوجته بقصد الإضرار بالزوجة، وهذه من عادات الجاهلية التي نهت الشريعة الاسلامية عنها .  

الدليل الثالث: قال الله تعالى بعد بيان أنصبت الاخوة لأم من الميراث: ? مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ? [النساء: 12].

 

وجه الدلالة أنَّ الوصية حق للمورث، وله استعماله على وجه مشروع بأن يكون فيه بر بالورثة، ولا يجوز استعماله على وجه غير مشروع بأن يكون إضرارًا بالورثة، كأن يقر بدين باطل، أو يوصي بأكثر من الثلث، أو يوصي لأحد الورثة، فالوصية مع الإضرار تعد تعسفا في استعمال الحق.

الدليل الرابع : قال تعالى في السفيه الذي يبذر امواله بغير حق ? وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)? سورة النساء .

وجه الدلالة في هذه الآية : ان الله أمر بالحجر على السفيه الذي يبذر أمواله بالإضرار بنفسه وبورثته ومن لهم حق عليه ، وذلك لتعسفه في استعمال حق الانفاق ، فيستحق السفيه التأديب والحجر عليه . 

الدليل الخامس: قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ» ، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»  .

وجه الدلالة في هذا الحديث : ان الزواج حق مشروع للإنسان لبناء اسرة صالحة في المجتمع ، والعن في الحديث المحلل والمحلل له؛ لأنه غير مشروع ومنهي عنه والنهي يفيد التحريم، لأنه لم يقصد بهذا الزواج بناء الاسرة . 

الدليل السادس : عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ).

ووجه الدلالة من الحديث : أن الذين في أسفل السفينة يستعملون نصيبهم وحقهم؛ لكن لما أرادوا أن يستعملوه على وجه غير مشروع أمر بمنعهم من خرق السفينة؛ لأنه يضر بالجماعة ضررًا عظيمًا، وهو هلاك الجميع وهذا لا يتكافأ مع مصلحة شربهم، ففعلهم هذا يكون تعسفاً ، والتعسف في استعمال الحق حرام .

السبب في تحريم التعسف: هناك سببان في تحريم التعسف وهما:

السبب أولاً : تقييد ممارسة الحق بعدم الإضرار : ليس لصاحب الحق حرية مطلقة في ممارسته، بل هو مقيد بعدم الإضرار بالغير، للنصوص الشرعية التي تمنع الإضرار بالغير، وتحريم الاحتكار وبيع مال المحتكر جبراً عنه عند الحاجة، وتحريم العدوان على الدماء، والأموال، والأعراض، سواء أكان الضرر ناشئاً عن استعمال حق مشروع أم عند اعتداء محض.

السبب ثانياً : نزعة الحقوق الجماعية: فلا تقتصر المصلحة المستفادة من الحق الخاص المالي على صاحبه فقط، وإنما تعود على المجتمع أيضاً؛ لأن ثروته جزء من ثروة الأمة التي يجب أن تبقى قوية استعداداً للطوارئ. بل إن للمجتمع في الظروف العادية نصيباً مفروضاً في المال الخاص عن طريق الزكاة والخراج والكفارات وصدقة الفطر وغيرها، ونصيباً مندوباً إليه عن طريق الصدقات والوصايا والأوقاف وسائر وجوه الخير والبر. وهذا ما يعبر عنه اليوم بالحقوق المشتركة .

فقد وضع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( قانون نزع الملكية الخاصة لتحقيق مصلحة عامة اجتماعية ) ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَهُ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ قَالَ لِبِلَالٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْطِعْكَ لِتَحْجُرَهُ عَنِ النَّاسِ، إِنَّمَا أَقْطَعَكَ لِتَعْمَلَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا قَدَرْتَ عَلَى عِمَارَتِهِ وَرُدَّ الْبَاقِيَ ) .

وإذا كان للمجتمع حق في مال الأفراد، فيجب ألا يتصرف الفرد في ماله تصرفاً ضاراً؛ لأن ذلك يعد اعتداءً على حق المجتمع، وعلى نفسه.

أحكام التعسف في استعمال الحق

1- ازالة الضرر: اي ازالة الضرر الناتج عن استعماله المتعسف في حقه، مثل : سد النافذة التي فتحها في ملكه ، والتي تطل على نساء جاره .

2- التعويض عن الضرر الحاصل عن طريق استعماله لحقه، اذا اتلف شيء من ممتلكات الاخرين.

3- ابطال تصرفه الضار المتعسف في حقه ، كإبطال الوصية الضارة بالورثة، وزواج التحليل.

4- منع الزوج من السفر بزوجته ، إذا قصد الإضرار بها، وتحريم الزواج إذا قصد الزوج الإضرار بالزوجة .

الكلمات المفتاحية: التعسف، المصلحة