التعصب أسبابه وصوره ومعالجاته

التعصب أسبابه وصوره ومعالجاته

 التعصب

أسبابه وصوره ومعالجاته

أ.د. أحمد عبد الرزاق خلف الدليمي

     إن مما ابتليت به أمة المسلمين قضية التعصب التي عصفت بإعصارها أذهان بسطاء هذه الأمة وجهالها، وافتتن بها أهل الأهواء الذين  شذوا بأفكارهم، وانحرفوا بجهلهم، فظلت عقولهم عن إدراك الحق، وزاغت قلوبهم عن اتباعه، فاختلفوا ، وتفترقوا عن سبيل الهدى إلى فرق وأحزاب متنازعة، فوقعوا في المحظور وأخذتهم تيارات التعصب والتطرف في مدها الجارف فرسخت في عقولهم الاعتقادات الباطلة وثارت من صدورهم دواعي المعاندة والمخالفة ، فنظروا إلى مخالفيهم بعين التهميش والازدراء،  وصار همهم الوحيد إرغام مخالفيهم على اعتناق آرائهم ، تارة باسم الدين أو المذهب وتارة باسم القومية وأخرى باسم الحزب، وان تطلب ذلك ارتكابهم أفظع الجرائم وأبشعها.

التعصب اصطلاحاً:

   يكاد التطور الدلالي لهذه الكلمة يحصرها في معنى واحد وهو التزمت والتشدد والعنف، إذ متى ما أطلق هذا اللفظ (التعصب) سبق إلى الذهن هذه الأفكار المتشددة العنيفة التي لا تقبل رأياً مخالفا ولو كان صواباً.

     حتى يمكننا بكل سهولة أن نبرهن على ذلك بالمقولة الشهيرة " ما أراه انا هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وما يراه غيري هو الخطأ الذي لا يحتمل الصواب"

    وعليه فإن التعصب الاصطلاحي في الوقت الراهن يدل على الاعتقاد بصحة ما يراه الشخص ورفض ما يراه الغير بشدة وعنف ولا يقبل للمخالف رأيا .

   وعرفه بعضهم بأنه:" الغلو والتمادي في التعلق الشخصي بمبدأ أو فكرة أو عقيدة, بحيث لا تترك مجالاً للتسامح, وقد يتعدى ذلك إلى العنف والتخريب".

 

أسباب التعصب

  يعتبر التعصب مرضاً اجتماعياً يولد الكراهية والعداوة في العلاقات الاجتماعية والشخصية ويعد ظاهرة مركبة ومعقدة ، وأسباب نشأتها متعددة ومتنوعة، فلا تتحدد بظاهرة نفسية فردية فحسب، بل قد يكون مرجعها إلى أسباب فكرية أو نفسية أو سياسية أو اجتماعية.. إلخ ،

ومن هذه الأسباب

1-الإعجاب بالذات الذي يلغي الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه ووجوده ويرفض الحوار معه.

2- تقديس بعض البشر والمغالاة في الميل نحوهم والتقليد والإتباع لهم، إلى حد إضفاء صفة العصمة لهم، دون الإذعان لحق الاختلاف بالتفكير، واحترام الاجتهاد وقبول تعدده .

3-الجهل بحقيقة الآخرين وعدم الإنصات إليهم وقبولهم، مع غياب الحوار البناء والتعايش معهم.

4- الانغلاق والجمود في التفكير ومجافاة الموضوعية المنطقية في تناول المسائل الخلافية، ثم رفض الرأي الآخر وكراهيته وتسفيهه وعدم احترامه.

5- الأفكار المتطرفة التي تُنشئها جماعات وفرق ضالة تُحرض على العنف ، وتكفير من يخالفهم في المذهب.

 

صور التعصب:

     التعصب ظاهرة اجتماعية شديدة الخطورة، وخاصة عندما تتخذ أشكالاً عدوانية عنيفة، وتتنوع أشكال هذه الظاهرة، وتختلف صورها داخل المجتمعات حسب طبيعة كل مجتمع ونظامه وقد يرتبط بعضها ببعض، فهناك من يتعصب لقبيلته أو لحزبه أو لفكرته، أو لجماعته،

أو لمذهبه، أو لعرقه فمن أبرزها :

1- التعصب القبلي:  عرفت العرب عن طريق الأنساب ، وتختلف العصبية القبلية باختلاف نظام كل قبيلة والتي تعتبر هي المكون الأساسي للمجتمعات العربية وتفرض نفوذها بقوة تقاليدها وعاداتها على كل أبنائها التي تربطهم وحدة الدم والنسب، أو الحلف والولاء .

2- التعصب القومي: وهو الانتصار للقومية التي ينتسب إليها ، وتاريخ البشرية على امتداد أجياله طافح بحروب قد وقعت في البلد الواحد بسبب التعصب للهوية القومية  .  

3- التعصب الديني أو الطائفي : هو تعصب لفرد ما أو جماعة لدين معين أو لمذهب معين، وهي أحدى صور التعصب الفكري الذي يحمل بين طياته نزعة الإقصاء الفكري ونفي حرية المعتقد والدين، ويهدد استقرار وتماسك وأمن المجتمعات ويرسخ القطيعة بين مختلف شرائح المجتمع الواحد أو المجتمعات المختلفة

 

4– التعصب الفكري: وهو الانغلاق على التفكير بصفة أحادية وإلغاء الرأي الآخر ورفض الاعتراف به وتقبله واحترامه أو الحوار معه، وهو ما ينافي المبدأ الذي يقرّ بالتنوع وتعدد الآراء، ومصادرة حق الآخر في التفكير أو الرأي .

5- التعصب الحزبي: وهو التعصب للفئة أو الحزب، أو الجماعة التي ينتسب إليها الفرد ، والولاء والانتصار لها دون غيرها سواء بالحق أو الباطل  

 

معالجات القرآن الكريم والسنة النبوية لظاهرة التعصب

 

أ‌-   : إقرار الانتساب وعدم التعصب له

    يعد الإسلام العصبية التي تقوم على أساس التفاخر بالأنساب والأحساب ويدخل في طيها نازع الكبر والتفاضل، جاهلية وضلالة ومن الخصال المذمومة التي نهى عنها وأمر بإبطالها

    قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) الحجرات :13 .  قال القرطبي في تفسير هذه الآية : " زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى" (الجامع لأحكام القرآن : 16/ 341 ) .

         أما الأحاديث النبوية الناهية عن العصبية القبلية الجاهلية، فمنها على سبيل المثال ، حينما حدث شجار بين أنصاري ومهاجر، وتنادى بعضهم: يا للأنصار!! ، وتنادى آخرون: يا للمهاجرين!! ، ذم النبي(صلى الله عليه وسلم) ذلك الفعل، وجعله من دعوى الجاهلية؛ قائلاً ومحذراً من العصبية: " دعوها فإنها منتنة" (صحيح البخاري4/ 1998، رقم(2584).

      لأن مقتضاه أن ينصر كل واحد منهما أخاه، ولو كان مبطلا ، وإنما شأن المؤمن أن يقف مع الحق وينصر المظلوم برفع الظلم عنه، وينصر الظالم بمنعه عن الظلم لا يفرق بين من كان من قومه أو من غير قومه فالكل يشملهم وصف الإيمان والإسلام .

      وقال صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس ألاّ إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألاّ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟  قالوا: بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ...الحديث" (مسند الإمام أحمد38/474، رقم(23489) .

   

ب-: النهي عن التعصب الديني:

     من سماحة هذا الدين واعتداله أنه قام على أسس ترفع الحرج في اتخاذ الدين ، قال تعالى

( لا إكراه في الدين ) البقرة 256

      ونهى عن التعصّب والغلو في الدين ، فمن الأحاديث النبوية الكريمة  : ما جاء في حديث ابن عباس(رضي الله عنهما) عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال :" إياكم والغلو؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" (مسند الإمام أحمد: 5/298, رقم (3248(.

    وما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود(رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "هلك المتنطعون"   المتنطعون:أي المتعمقون: الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. (صحيح مسلم 4 / 255, رقم(2670)  .

    لذلك كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن التشدد كما قالت أم المؤمنين عائشة(رضي الله عنها) :" ما خُيّرَ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " (صحيح البخاري 8/ 160، رقم(6786) .

 

ج- : الحث على اخذ العلم من أهله الثقات.

   حرر الإسلام العقل من أسر التقليد الأعمى والإتباع المطلق بغير دراية ، سواء كان إتباعاً  للآباء أو للسادة أو حتى للأساتذة والشيوخ، فضلاً عن إتباع العامة، وهو ما حذر منه النبي(صلى الله عليه وسلم) بقوله: " لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"( سنن الترمذي 3/ 432، رقم(2007)  

     وكان من هديه(عليه الصلاة والسلام) التماس العلم من أمناءه وأصحابه ؛ الراسخين بالعلم

الذين يخشون ربهم لئلاَّ يختلط الحق بالباطل، والصواب بالخطأ .

     قال(صلى الله عليه وسلَّم ):" إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون" مسند الإمام أحمد:13/291، رقم(7912)

وعنه (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال:" إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتَّى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا" (صحيح البخاري 4/2058، رقم(2673)

   وهذا ما نراه واضحاً اليوم عند من يتصدرون لقيادة المجموعات المتطرفة التكفيرية ، فهم يعتمدون على مجموعة من الفتاوى التي يطلقها أنصاف المتعلمين ، بل الجهلة في أكثر الأحيان.

 

 

 

 

د- : الاختلاف والتنوع وطرق والتعايش السلمي

    وضع القران القواعد الأساسية للتعامل مع غير المسلمين،آمرا المسلمين بالبر والقسط تجاههم كما في قوله تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) الممتحنة : 8

     ومنح الإسلام اليهود والنصارى حرية الاعتقاد ولم يجبرهم على الدخول في دين الإسلام وأعطاهم حرية في ممارسة جميع طقوس دينهم وشعائرهم من دونَ المساس بهم، فلكلِّ ذي دِين دِينه ومذهبه ، قال تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) البقرة 256  .

    وتتجلَّى سماحة الإسلام في معاملة النبي(صلى الله عليه وسلم) معهم والتي اتصفت بالإنصاف والإحسان إليهم، فسمح لهم بحريّة اختيار الدين، ولم يُجبرهم على اعتناق الإسلام

فضمنَ لهم حقوقَهم ومنع ظلم أيّ مسلمٍ عليهم، فكانت دماء أهل الذِّمة وأموالهم وأعراضهم معصومة.

          وكان(عليه الصلاة والسلام) يحسن إلى أهل الذمة، ويدفع عنهم الظّلم ، فعنه (صلى الله عليه وسلم) قال:"مَن ظلم معاهدًا، أو انتقصـه حقًا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"( سنن أبي داود4/658، رقم(3052) .

    وكان عليه(الصلاة والسلام) يعود مرضاهم، ويرجو الله هدايتهم، فعن أنس بن مالك(رضي الله عنه) قال:" إن غلاما من اليهود كان يخدم النبي(صلى الله عليه وسلم) فمرض فأتاه النبي(صلى الله عليه وسلم) يعوده وهو بالموت فدعاه إلى الإسلام فنظر الغلام إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه أطع أبا القاسم فأسلم ثم مات فخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من عنده وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"  مسند الإمام احمد:21/ 78، رقم(13375). 

 

    هذا هو خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع غير المسلمين ، أما خلقه مع المسلمين فكان لا حدود له من الاحترام والمحبة والتسامح ولين الجانب ، فأين أصحاب القلوب القاسية التي تريق دم المسلمين باسم الإسلام وتشردهم باسم الدين وتكفرهم باسم العقيدة ، أين هم من هذا الهدي النبوي الشريف ، فلا يحق لأحد من الذين ينتسبون لهذا الدين أن يخرج عن هدي القرآن الكريم وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يتمسك بهما، وإلا خسر الدنيا والآخرة .

لذا نسأله تعالى أن يرزقنا اتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في العلم والعمل وأن يجعلنا من الناجين في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب