مقاصد الشريعة وإثرها في البناء العقدي للإنسان

مقاصد الشريعة وإثرها في البناء العقدي للإنسان

 مقاصد الشريعة وإثرها في البناء العقدي للإنسان

أ..د هادي عبيد حسن الويسي

لتحميل الملف اضغط هنا 

إن المُجتمع الذي نعيش فيه تحكمه قوانين وتَّشريعات، تحدِّد حقوق الآخرين، من محبةٍ وألفةٍ وتصالُحٍ وتعاوُنٍ ليستمرّ المجتمع وليكون بناءً متماسكاً لا يمكن اختراقه، شبّهه نبينا محمّد صلى الله عليه وسلّم بالجَسد الواحِد الذي تتكامل أعضاؤه معاً، ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى))، ولذلك خلق الله سبحانه وتعالى الانسان وميزه بخاصية الارادة والعقل، فيقبل الاوامر من خالقه وفق منهجه تعالى، فينعم بحياة ملؤها الايمان الغامر التي تحوله الى انسان يعيش في حياة جنة فوق الأرض مهما ينغص حياته على امثاله من البشر.

فنجد الجيل الاول من الصحابة حينما نزل عليهم الخطاب الالهي في عهده الاول ركز على الجانب العقدي باعتباره ضروريا لجذب الانسان ليتجاوب على مستوى العقل والشعور على مستوى نفسية ذلك الانسان مع التكاليف الربانية، وتحقق ذلك بفضل النبي صل الله عليه وسلم وكان له اثر في بناء الانسان المؤمن.

وتناقص جذوة الايمان بعد عهد النبوة، واختلفت سلوكية الايمان في عقول افراد الامة لأسباب كثيرة، فكانت للمدارس الكلامية بمختلف مدارسها محاولة لإصلاح المجتمع والعودة به الى عهد الرعيل الاول.

ان الانسان هو المقصد الاسنى لمقاصد الشريعة التي تستهدف شخصية ذلك الانسان وفق فطرته التي خلق عليها.

فالمقاصد الشرعية التي تتضمن مجموع الاحكام العقدية المتعلقة بما يعرف بأصول الايمان فهي تتخذ من الانسان محوراً، ومن العقيدة مادة، ومن مجتمعه وبنيته الكونية موضوعاً.

فالإنسان هو جماع هذا الكون يحمل في قلبه ودماغه قدرة تجعله على صلة بما يحوطه من اكوان لذلك غدا الانسان محوراً لما في الكون من حقائق لا تحد ومظهراً لها، بل هو نواتها الحق، ولذلك اذا قلنا ان الانسان كطبيعة علينا ان ندرك تصور الانسان لنفسه يتحدد طبيعة الانسان كوظيفة في الوجود وعلاقة ذلك الانسان ببقية الكائنات والغاية النهائية من هذا الوجود.

فمقاصد الشريعة تناولت قضايا الانسان الوجودية الى جانب ذلك الكون كاطار بيئي يحيطه فركزت المقاصد على جانبين.

الاول: بعد معرفي عقدي تصوري، به يتحدد للإنسان ما ينبغي معرفته واعتقاده حول الكون ومكانته فيه.

الثاني: بعد وظيفي به يتحدد للإنسان ما ينبغي فعله في هذا الكون.

ركزت المقاصد على المكون النفسي للإنسان على جانبين نفسي وعقلي؛ لأنه لن يتحقق أي هدف للمقاصد ما لم يأخذ بهذا الجانبين فالخالق العليم بخفايا ودقائق النفس البشرية.

فحدد لنا الباري عز وجل الغاية الوحيدة من خلق الانسان، وهي عبادته سبحانه وتعالى لذلك جاءت الشريعة لتبين مهمة الانبياء جميعا، انهم بعثوا لدعوة الناس الى تحقيق عبوديتهم لله سبحانه وتعالى باعتبارها العلة الغائية لوجود الانسان، واستلهم القرآن لهذه القضية فساق نماذج تفصيلية من قصص الانبياء في بيان مضمون دعوتهم والغاية التي بعث من اجلها كل واحد منهم وهي عبادة الله تعالى.

وكل مقصد الآيات التي جاء بها القران الكريم ايضا تبين لنا ان الغاية من خلق الانسان، والتي جاء بها الانبياء من اجلها للناس ودعوتهم الى تحقيقها هي تحقيق العبودية لله تعالى.

وعند التأمل للآيات في القران الكريم نجد ان الله سبحانه وتعالى يختم مآل اولئك الاقوام الذين دعوا الى عبادة الله، فمنهم من استجاب لدعوة الانبياء واستحق الثواب الالهي في النعيم المقيم يوم القيامة، ومنهم من كذب الانبياء واعرض عن دعوتهم وعبد غير الله فأستحق الجزاء الالهي في العذاب الشديد يوم القيامة، فموقف الناس من دعوة الانبياء يفيد بان الله سبحانه لم يتعبد خلقه لحاجة له في ذلك، فهو تعالى غني عن كل شيء.

فمفهوم العبادة لله منفعة ومصلحة للعباد، وهي ان يسعدوا بامتثالها وتحقيقها، فكل الآيات جاءت مبينة ان السعادة كل السعادة في التزام العبادة لله، وان تركها العذاب والشقاء فعبادة الله هي هدف كبير للإنسان في هذه الحياة، لا لذاتها ولكن لغاية تتحقق وراءها وهي سعادة هذا الانسان، ولذلك ذكر رب العزة المآل الختامي لحياة الناس والمصلحة النهائية للوجود البشري على الارض فهذه الغاية التي من اجلها خلق الانسان ودون هذه الغاية او السعادة الابدية للإنسان.

وركزت مقاصد الشريعة ايضا في مجموعة آيات الاحكام العقدية على العقل ووسائل العقل التي هي حاسة السمع والبصر التي تنير العقل بالمعرفة لدى الانسان، فالسمع والبصر ادوات عقلية وليست مجرد جوارح حسية فلذلك نجد علق الهداية على السمع ويجعله شرطا من شروطها ونجد الشريعة تبين استجابة دعوة الرسل توفر حاسة السمع بوظيفتها الحقيقية وكذلك حاسة البصر

فدعت الشريعة الانسان في الحديث عن العقائد الى التعقل والنظر والتذكر والتدبر والاعتبار والاستنتاج والاستنباط والتحليل فكلها وظائف عقلية ذهنية تستدعي آليات حسية كالعين والاذن بان يضع امام الانسان منهجا للنظر والتفكير من اجل ان يستيقن الانسان بنفسه على صدق القضية العقدية، ولذلك تسوق الشريعة على صحة عقيدة التوحيد بصورة منطقية.

 فقد استند مبدأ عدم التناقض، فواقعية دلائل العقيدة لا تحصى؛ لان القرآن يقدم حقائق العقيدة ليس كأحكام مقررة، بل يرسم للعقل منهج التفكير، وهو يشمل الاحكام التشريعية العملية وتأتي من خلال اسلوب تعليل الاحكام وبيان الحكم والمقاصد وهي التي مكنت علماء الاصول من استخراج مناهج الاستدلال من استنباط واستقرار، وهذا كمنهج علماء الكلام في اشتقاق الاستدلال العقدي من الآيات العقدية.

وحتى في حالة الترقي الإيمانية يذكر لنا ربنا تبارك وتعالى طلب ابراهيم عليه السلام من ان يمكنه احيائه الموتى، بعد ان اقتنع عقله بقدرة الله سبحانه وتعالى ليرقي في ايمانه " ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا" ، فهنا جاءت لتوضح الترقي الايماني حتى عند الانبياء.

فتبين ان من مقاصد الشريعة الاساسية ان يمكن العقل من اكتساب المنهج؛ لأنه يبين للإنسان كيف يفكر؟ كيف يعتقد؟ كيف يكتشف سنن الخلق في الكون؟