تقانة القناع في الشعر العراقي الحديث

تقانة القناع في الشعر العراقي الحديث

عرَّفت معاجم اللغة القناع بأنه، ما تغطي به المرأة رأسها وغشاء القلب والشيب وما يستر به الوجه، أما اصطلاحاً ، فهو أحد التقانات المستعملة في الأداء الدرامي ، يعتمد على استعارة شخصية يتحد بها الشاعر لتكون ناطقة بلسانهِ ، ومعبرة عن حالهِ ، ومجسدة لمواقفهِ ، ويقوم الشاعر بإضفاء بعض من ملامحهِ على هذه الشخصية ، ويستعير من ملامحها ، ليتكون من ذلك (القناع) الذي هو ليس الشخصية ، ولا الشاعر ، بل هو الشاعر والشخصية معاً ، وقد اختلف النقاد في ماهية الشخصية التي يتقنع بها ، فمنهم من حددها بالشخصيات الإنسانية التي تمتلك بعداً تاريخياً فقط ، ومنهم من وسَّعَها لتشمل ، أي شخصية ، سواء كائنات حية أو جمادات ، تماماً كما يطلق على اصطلاح الشخصيات في العمل القصصي ، ولكنهم يتفقون على البعد المحسوس لهذا القناع ، فلا يمكن أن يكون من معانٍ مجردة، والقناع تقانة جديدة دخلت مضمار القصيدة الحديثة ضمن عملية توظيف الرمز، إذ القناع جزء من الرمز ، أو صورة من صور الترميز.

        إن أصل القناع مسرحي لم يدخل عالم الشعر إلا في مطلع القرن العشرين ليؤدي إلى وظيفة جديدة تختلف نسبياً عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال المسرح، وفي الموروثات البدائية قبل ذلك.                                                                                                        

         وهو مرتبط بالإنسان البدائي، معتقداتهِ وممارساتهِ التعبيرية، وفي عصر النهضة الأوربية عاد القناع للظهور في المسرح لدى الشخصيات من أجل التنكر والإنشاد الغنائي وربما كان أول من استعمله في الشعر بوعي، الشاعر الأيرلندي وليم بتلر بيتش، الذي استمد هذا المصطلح عبر استقصاء عميق لتقاليد طقوس المجتمعات البدائية.

        تعود النشأة الحديثة نسبياً لـ (القناع) لأنه واحدٌ من بين العديد من المصطلحات التي استعارها النقاد العرب من مصطلحات غربية. وقد جاء ترجمة المصطلح الانكليزي: (mask) الذي تردد في دراسات (إليوت) وبحوثهِ النقدية...، لم يبرز مصطلح القناع بإجماع العديد من النقاد إلا مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي وقف عنده طويلاً في كتابه (تجربتي الشعرية) ليثبت أنهُ ملمح هام من ملامح القصيدة الحديثة، وكان أسلوب القناع قبل هذا يشار إليه بمصطلح الرمز، إذ قام عبد الوهاب البياتي باستدعاء هذا المصطلح من النقد الغربي ، موضحاً أن القناع هو ذلك الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر متجرداً من ذاتيتهِ ، أي إن الشاعر يعمد إلى صنع  وجود مستقل عن ذاتهِ وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردّى أكثر الشعر العربي فيها. فالانفعالات الأولى لم تعد شكل القصيدة ومضمونها، بل هي الوسيلة إلى الابتكار الفني المستقل. إن القصيدة في مثل هذه الحالة عالم مستقل عن الشاعر – وإن كان هو صانعها – لا تتحمل آثار التشويهات والصرخات والامراض النفسية التي يحفل بها الشعر الذاتي الغنائي. 

       إن ظهور القناع – شرقاً وغرباً – مرتبط بالثورة على الرومانسية، فيسمح للشاعر أن يضفي على صوتهِ نبرة موضوعية، شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات، في حين كانت الرومانسية تغوص في الذات الشاعرة حد الذوبان فيها والانقطاع عما حولها.

       إذن القناع تقانة جديدة معاصرة، تعبر بإيحاء عن تجارب واقعية، من خلال التمثل بشخصية من الشخصيات التاريخية – التراثية. فيحقق الشاعر من خلال المثول حالة من الاندماج والاتحاد بينهُ وبين القناع إذ يكونان معاً كياناً جديداً لا يمثل الشاعر ولا يمثل الشخصية. فـــفي بنية قصيدة القناع لا يسمع صوت الشاعر وصوت الشخصية التراثية مستقلين ، بل تبرز في النص أشكال المجاذبة الناتجة عن هذا التركيب الصوتي ، لأن الشاعر لا يستدعي شخصية صامتة ، بل يستدعي شخصية تحمل صوتاً يميزها ، ويكشف عن هويتها ، ويستعير شكلها ، ولا يتحدث بصوته فحسب ، بل بصوت الشخصية المستدعاة لذلك تخرج قصيدة القناع بصوت واحد مركب ، لا تستطيع معه معرفة إن كان صوتاً للشخصية التراثية أم للشاعر ، لأن كلا الصوتين يتزاحمان في أضيق مساحات النص التي تتضمنها في الصعود و الهبوط ، و يدخلان في سياق جديد يعيد إنتاجهما صوتاً واحداً ، ويخرج من صلبيهما.

 وعندما يرتدي الإنسان القناع الذي يخفي وجهه والرداء الذي يغطي جسدهُ يريد أن يخرج من شخصيتهِ أمام ذاتهِ وأمام الآخرين ويدخل في ذات هوية أخرى.                                                                                               بناءً على ذلك يندمج في القصيدة صوتان: صوت الشاعر من خلال صوت الشخصية التي يعبّر الشاعر من خلالها.  كما أن الصلة بين الشاعر وقناعهِ رقيقة والحاجز بينهما شفاف، صحيح أنهما وجهان، ولكن أحدهما فوق الآخر. وصحيح أنهما صوتان لكنهما متناغمان متآلفان في سمفونية وعمل موحد. فالشاعر يرى في الشخصية التي يختارها قناعاً مناظراً له، ويكتشف في ملامحه صورته، ويرى في موقفهِ التاريخي انعكاساً لتجربتهِ فيجذبه إلى دنياه، وكأن الشخصية التراثية شاشة بيضاء يعرض عليها الشاعر صورته وصوته من خلال التماثل بين الأصل والقناع في موقف من المواقف أو حدث من الأحداث.

        إن الشاعر العربي انتقل من الشعر الغنائي إلى قصيدة القناع والتعبير الدرامي وهذه الانتقالية لم تكن قفزة في فراغ، بل نتيجة للتواصل والاطلاع على الشعر الأـوربي، إذ نرى بعض الشعراء يميلون بين الفينة والأخرى إلى السرد القصصي الشعري، وكثرة استعمال الأسطورة والشخصيات التراثية، في النصف الثاني من القرن الماضي، بعد أن استعملت منذ بدايات القرن الماضي في بعض قصائد خليل مطران، وجبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي وغيرهم من الشعراء.

        كما أنَّ لهذه الإنتقالة جذوراً في التراث الأدبي العربي، تتمثل بشخصيات أبطال المقامات، فأبو الفتح الإسكندري بطل مقامات الهمذاني يتقنع في كل مقامة بقناع جديد ويتخذ شخصية مختلفة عن الشخصيات التي قام بها من قبل. ولابد لمستدعي التراث من الشعراء المعاصرين أن اطلع على شخصيات المقامات فنفذت إلى أعمالهم الشعرية عن قصدٍ منهم أو عن غير قصدٍ منهم.

        ومما لا يقبل الشك أن هناك عوامل متعددة دفعت الشاعر العربي المعاصر إلى استعمال تقانة القناع أهمها العامل السياسي والاجتماعي فقد عاش العراق – في القرن العشرين – أوضاعاً سياسية قلقة ظهرت آثارها في جميع تمفصلات الحياة، إذ شغلت السياسة والأحداث السياسية مكانة مهمة من حياة العراق إذ يمكن القول إنها تمثل الوجه البارز للنشاط الفكري. فاتجه الشاعر العراقي إلى رفض سياسات النظام الاستبدادي مبتعداً عن التصريح والمباشرة كي يدفع عن نفسهِ ألوانا من الأذى والاضطهاد، مما دفعهُ إلى اللجوء إلى التراث متخفياً وراء الأقنعة التراثية، فاستعمل الأسطورة، والرمز وتقانة القناع التي تكون ستراً يحتمي به أصحاب الكلمة ويلجؤون وراءه من تنكيل السلطة ومن مواجهتها مباشرة بآرائهم.

       وأتاح العامل الثقافي المجال أمام الشعراء المعاصرين لاستعمال القناع وذلك على أساس عاملين هما: تأثير حركة أحياء التراث والدور الذي قام به رواد هذهِ الحركة في كشف كنوز التراث وتجلياتها وتوجيه الأنظار إلى ما فيها من قيم فكرية وروحية وفنية صالحة للبقاء والاستمرار. وأما العامل الثاني من هذه العوامل الثقافية فهو تأثير الشعراء العرب المعاصرين بالاتجاهات الداعية إلى الارتباط بالموروث في الآداب الاوربية الحديثة، ولقد كان هذا العامل مكملاً للعامل الأول.  

        وتعد الترجمة من العوامل التي أتاحت للشاعر العربي المعاصر الانفتاح والاطلاع على الفكر الإنساني الذي يمثل حضارات الشعوب وعاداتها وتقاليدها وآدابها وعليه فإن عملية الابداع تتكون من منطلق التأثر والتأثير. من هنا يجد الشاعر العربي نفسهُ بين مجموعة من الأدباء والفلاسفة العرب الذين لهم أثر واضح في الشعر العربي المعاصر الذي شهد في السنوات الماضية نوعاً من الانعطاف ببيئتهِ المتعارف عليها، فانفجرت انفجاراً لا عهدَ لها بمثلهِ وقد جاء هذا الانعطاف في الحقيقة بمثابة الصدى المباشر للمفارقات التي هزت الذات وعجزت عن الصمود في وجه طاقتهِ الحضارية. 

        وهناك عامل آخر دفع الشعراء المعاصرين إلى استعمال القناع، هو دعوة الشاعر الناقد الانكليزي ت- س إليوت فيما يتعلق في تقنية القناع ، وإلى ضرورة ارتباط الشاعر بموروثهِ وإلى التقاليد الشعرية وضرورة إيجاد (المعادل الموضوعي) لعرض العواطف والمشاعر ، وقد انتشرت انتشاراً واسعاً بين الشعراء والنقاد العرب ، وقد تكون محاولة الشعراء العرب تحقيق (المعادل الموضوعي) في قصائدهم واستلهام نماذجه المحققة شعرياً في النتاجات الغربية  من أهم الاسباب التي قادت إلى ظهور (تقنية القناع) في القصيدة العربية الحديثة.

       وما فتىءَ الشعراء بحثاً عما يخفف الحدة الغنائية والذاتية في الشعر الحديث فحددوا عواملَ فنية، أخذت منحىً موضوعياً، من خلال ابتكار قصيدة ذات منحى درامي وقصيدة المنولوج والقصيدة المتعددة الاصوات، فوجد الشعراء العرب ضالتهم في استعمال التقنيات الجديدة التي برزت في الشعر الغربي لإضفاء المزيد من الأبعاد الجمالية على اشعارهم، ولا شك أنَّ القناع واحد من بين هذه التقنيات الجمالية التي استعملوها.

         ونرى أن الدوافع التي سبقت والتي تؤدي إلى ابتكار أو استعمال القناع تنبع من إدراك الشاعر للتناقضات الخفية في المجتمع ورغبتهِ في الكشف عن هذه التناقضات وفضحها عن طريق ابتكار كيان شعري يتم فيه تحرير أو تحريك هذه التناقضات وهو في ذلك يلجأ إلى عملية إسقاط هرباً من قهر السلطة.

         ولنا هنا أن نميز العلاقة القائمة (الأنا) و (الهو) بين الدراما وقصيدة القناع كون الشخصية المسرحية تظل – خلافاً لما يحصل في قصيدة القناع – مستقلة عن المؤلف بمواقفها المتفردة (التي لا تطابق مواقف من كتبها بالضرورة) لأن أقوال  الشخصية المسرحية وتصرفاتها تعكس ظروفها الخاصة بالحدث المسرحي ، وقد يطل المؤلف المسرحي أحياناً من خلال الشخصيات التي تبدو قريبة منه ، مجسدةً شيئاً من أفكارهِ ، لكن الغالب على شخوص المسرح أنهم ذوو وجود متكامل ومستقل عن المؤلف ، أما الشخصية التي تبتكر قصيدة القناع فإنها غير مستقلة عن الشاعر المعاصر ، لأنها تمثل اتحاد الشاعر برمزهِ اتحاداً تاماً ، لهذا يجب أن تتوفر في القناع مواقف وخصائص تشبه إلى حدٍ بعيد مواقف الأديب المعاصر، وأفكارهِ وأزماتهِ.

       ويبدو أن تعدد الأصوات في قصيدة القناع ناتجٌ عن ابتكار شخصية درامية جديدة، هي في الحقيقة أقرب إلى شخصية (البديل الموضوعي) منها إلى شخصية القناع يجتلبها الشاعر الحديث من التراث الإنساني، ومن الاساطير والرموز، أو يبتكرها من مخيلته، ويتخَّفى وراءها ويجعلها تهبط إلى العصر، لتطرح قضايا مصيرية.