صور من تأثير القرآن وسلطانه على القلوب

صور من تأثير القرآن وسلطانه على القلوب

 

بسم الله الرحمن  الرحيم

صور من تأثير القرآن وسلطانه على القلوب

            الحمدلله والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين: للقرآن الكريم أثر عظيم في حياة المسلمين وله أثر واضح في البيئة التي يتلى فيها بصورة عامة كونه يحوي سر الوجود الحياة، ولكي تستقيم حياتنا وتستقر نفوسنا لابد من تلاوة القرآن وعدم ترك تلاوته خشية من أن يشملنا قوله I: )وقال الرسول ياربِ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً( (الفرقان30)

-صور من الآثار النفسية لتلاوة القرآن الكريم:

     هناك تجارب كثيرة تبين أثر القرآن الكريم وسحره على البشر فضلا عن البيئة ومنها قصة اسلام ملك الحبشة النجاشي، إذ أرسلت قريش رجلين هما عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، وهما يحملان الهدايا لحاكم الحبشة ولحاشيته، مقابل تسليمهما مهاجري الحبشة، ولفقوا تهما مختلفة على المهاجرين لإقناع الملك بنجاح مهمتهم، لكن الملك (النجاشي) لم يقبل أن يسمع من طرف واحد، فأرسل في طلب المهاجرين لحضور المجلس، وكان المتحدث باسمهم جعفر بن ابي طالب: (رضي الله عنه)، فأظهر جعفر في المجلس حقيقة الأمر وسبب هجرتهم إلى الحبشة، ولخص له الإسلام، وبين له ما قال القرآن في تعظيم مريم وابنها عيسى عليهما السلام، بنص بلاغي عظيم فتلا عليه صدرا من سورة مريم إلى قوله  I: )... يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ... ((مريم 36)، فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته فقال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فرد النجاشي إليهم جميع هداياهم، وأنذرهما مهدداً بألا يعودا إلى الحبشة بمثل هذا الطلب. فتأثر النجاشي بما سمع من الحق، وعرف أن هذا هو الحق، فأسلم في سريرته[1]. ومن هذا الموقف ندرك أثر القرآن وسلطانه على المشاعر والقلوب ألم يقل الله I: )الا بذكر الله تطمئن القلوب( (الرعد18)، فهذه الآية: ترسم صورة شفافة للقلوب المؤمنة في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام، تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، وتطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق. تطمئن بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر أو شر، مع الرضى التام بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والاخرة، و هذه حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله. فهم يعرفونها ويتذوقونها، لأنها لا تنقل بالخطب والكلمات، بل إنها تسري في القلوب فتستريح  وتستقر لسماعها[2].

-والصورة الأخرى من تأثير القرآن وسلطانه على القلوب ما كان من إسلام عمر بن الحطاب (رضي الله عنه) وذلك حينما اشتدَّ أذى المشركين على المسلمين وأوذي رسول الله (r) من قبل أبو جهل فأسلم بسببه حمزة عم المصطفى(r) حمية وعصبية ونصرة لابن أخيه محمد (r)، فوقف محمد (r) يدعو الله بأن ينصره بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام(الذي هو أبو جهل نفسه)، وهما من أشد رجال قريش رجولة وحمية، وكلاهما كان حريصاً على أذى رسول الله (r)والنيل منه، في حين أن رسول الله كان واقفاً يدعو لهما بالهداية والإسلام، لدرجة أنهما فكرا في قتله والتخلص منه وكان ذلك في ذي الحجة سنة ست من النبوة بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه. وممَّا روي عن أبن مسعود وأنس أن النبي (r) قال: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام(الذي هو أبو جهل نفسه)، فكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب، وخلاصة الجمع بين الروايات في إسلامه، أنه التجأ ليلة الى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي (r) كان قائما يصلي وقد أستفتح بسورة(الحاقة)، فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، وعذوبة ألفاظه، قال: فقلت في نفسي هذا والله قول شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ رسول الله (r):  )إنه لقول رسول كريم*وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون( قال: فقلت: إذن إنه كاهن. فقرأ رسول الله (r):  )ولا بقول كاهن. قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين(، إلى آخر السورة .قال فوقع الإسلام في قلبي، لأول مرة ولكن لحدة الطبع وفرط عداوتي لرسول الله (r) خرجت يوماً متوشحاً سيفي، أريد قتل النبي(r)، فلقيني نعيم بن عبد الله العدوي، فقال: أين أنت ذاهب يا عمر؟ فقلت له: أريد أن أقتل محمداً، قال: كيف تأمن على نفسك من بني هاشم ومن بني زهرة ؟!! فقلت له: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال أفلا أدلك على العجب العجاب يا عمر!!!قلت بلى، فقال: إن أختك وختنك قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشيت غاضباً مسرعاً أريدهما، وكان عندهما خباب بن الأرت يعلمهما القرآن، وكان معه صحيفة فيها سورة (طه)، وكان يختلف إليهما ويقرؤهما القرآن، فلما سمع خباب صوتي توارى في البيت، وأخفت أختي (فاطمة) الصحيفة خشية من تدنيسها ـ وكنت قد سمعت حين دنوت من البيت قراءة خباب القرآن عليهما، فلما دخلت عليهما قلت ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم ؟ فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثبت عليه فوطئته وطئاً شديداً. فجاءت أختي فرفعتني عنه فلطمتها لطمة بيدي، فأدميت وجهها، فلما رأيت الدم ينزف من وجهها ندمت وأسفت أسفاً شديداً، فقالت: وهي غضبى، أرأيت إن كان الحق في غير دينك يا عمر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فندمت واستحييت، وقلت: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه ، فقالت أختي: إنك مشرك نجس، و هذا القرآن لا يمسه إلا المطهرون، فقم واغتسل، فقمت فاغتسلت، ثم أخذت الكتاب، فقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم) طه.. حتى انتهيت إلى قوله I: )إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري( فقلت: ما أحسن هذا الكلام وما أكرمه؟ دلوني على محمد. فلما سمع خباب قولي خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول(r) لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل عمرو بن هشام) ورسول الله (r) في الدار التي في أصل الصفا[3]،أ.هـ.

وفي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه  دلالة واضحة بأن سبب إسلامه كان في تأثره في تلاوة القرآن الكريم.

 ومن حينها فقد حرص المشركون على عدم سماع القرآن خشية من التأثر به، وأخذوا يتجنبون الاحتكاك بالرسول (r) وأصحابه الاخيار للحد من انتشار الإسلام وخشية من فشوه بين أهل مكة.

- والصورة الأخرى من تأثير القرآن وسلطانه على القلوب ما كان من قصة أبو بكر (رضي الله عنه) مع المشركين ومنها: حين خرج أبو بكر مهاجراً يريد (الحبشة) فبلغ برك الغِماد لقيهُ ابن الدغنة ـ وهو من سادة قريش، فقال له: أين تُريدُ يا أبا بكر؟ فقال: ابو بكر أخرجني قومي وأريدُ أن أسيح في الارضِ وأعبد ربي خالياً، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا ابا بكر لا يَخرجُ ولا يُخرجُ، إنك تَكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فأنا جار لك، فارجِع واعبد ربك ببلدك كما تشاء. فرجعَ، وارتحل معهُ ابنُ الدغِنة، فطافَ ابنُ الدغنة عشية في أشراف قريش وقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرُجُ مثلهُ ولا يُخرج، أتخرجون رجلاُ يكسبُ المعدوم، ويصل الرحم) فحفظت قريش جوار ابن الدغنة وقالوا له: مُرْ ابا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها ما شاء وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا بالقرآن فذكر ذلك لأبي بكر، فلبث أبو بكر يعبد ربه في داره، ثم بدا لأبي بكر فأبتنى مسجداُ بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فأخذ يختلف إليه نساء المشركين وأبناءهم يستمعون القرآن، وهم يعجبون منه وينظرون إليه يبكًي لا يملِكُ عينيهِ إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش، وخافوا أن يفتن عليهم نساءهم وأبناءهم. وفي هذه القصة دلالة على إن المشركين يعلمون أن ما جاء به محمد(r) هو الحق ولكنهم ينكرون هذا كبرا وتكبراُ، ويدل على ذلك قوله I في هذه الآية يصف حال المشركين قال I:)وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ  يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا... ((الجاثية 28)، ويل لكل أفاك: أثيم اي الهلاك واشد العذاب لكل  من كذب بآيات الله، وهو كثير الأثم والمعاصي، ومنها الاصرار والاستكبار فهو يسمع آيات اللهِ تتلى عليه، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب اليم، فأخبره يا محمد بأن له عند الله عذاباُ شديد الإيلام، جزاء اصراره واستكباره وعدم استماعه الى الآيات. نسأل الله أن نكون من أهل القرآن وخاصته ونسأله تعالى أن نكون ممن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وأحزاننا وأن يذكرنا منه ما نسينا ويعلمنا منه ما جهلنا وأن لنا لا علينا.

                                        د.قدور أحمد الثامر

 15/4/2022م،14رمضان 1443هـ



1 طارق محمد الصالح السويدان . الكتاب (السيرة النبوية) الإبداع الفكري للنشر والتوزيع (2016)

1ـ ابراهيم حسين الشاذلي المعروف بسيد قطب . كتاب ـ في ظلال القرآن . الناشرـ دار الشروق للنشر .تاريخ الاصدار 2011 .ج(4) ص(2060)

2ـ الترمذي ، أبواب المناقب ، مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب 2/209.

[3]- صفي الرحمن المباركفوري. كتاب: الرحيق المختوم . الناشر: دار احياء التراث 1976م  ص(89 و90و91و92)

2ـمحمد بن اسماعيل البخاري(أبو عبدالله).كتاب(صحيح البخاري) .دارأبن كثير(دمشق ـ بيروت) الطبعة الاولى2002م /1423ه) كتاب مناقب الانصار. ص( 956ـ957)