إضاءات الشعر والشعراء في لسان العرب

إضاءات الشعر والشعراء في لسان العرب

 م.م. صلاح الدين عبد خلف

جامعة الانبار

      لا يكفي الكلام على لسان العرب البحث ولا المقال ، فمنذُ أن انطلقت البحوث والدراسات لم تفِ ما فيه وهو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد ، لكونه الماضي والحاضر والمستقبل  وهو من أوسع المعاجم العربية وأطولها وأشملها . لكن أحببت أن أطرق جزءاً من أبوابه في مادته الشعرية لعلها تفيد الباحثين.

إضاءة عن ابن منظور...

       هو واحد من حملة الزاد ، وسدنة اللغة والأدب ، اسمه جمال الدين ابو الفضل محمد بن مكرم بن علي بن أحمد بن ثابت الأنصاري ، المصري المولد ، المعروف بابن منظور نسبة إلى جده السابع . ولد في مصر سنة 630هـ وخدم في ديوان الإنشاء ، وتتلمذ على ابن المقير، مرتضى ابن حاتم وعبد الرحيم بن الطفيل .

       ابن منظور أحد الأعلام الذين جعلوا من عصرهم المظلم عصر صمود وثبات وتوثيق لحضارة الأمة ، من حيث المناخ النفسي والاجتماعي والإبداعي ، المدة التي صمد فيها العقل العربي في وجه الغزاة المغول وغيرهم من الشعوب الغازية المتعطشة للدماء والدمار ، وواصل فعله في ضمير الأمة العربية ، فاتجه نحو الأسلاف وصنائعهم النفسية في شتى الحقول والميادين ، فأعاد ترتيبها وإخراجها ، وهيأ للمخبوء منها ، المنتشر في طي الكتب والسير والأخبار ، صورة متكاملة ذات فاعلية ضاربة في أعماق المدارك الإنسانية وحواسها وميولها ... فكانت منجزاته ومصنفاته من نوع آخر، فيها الإبداع والخلق في ما أنجزه من تراث ، فقد نعمت بخصوبة وفضائل وافرة ، أقلها الحفاظ على سلامة تراث العربية واغناؤه وإيصاله إلى الإجيال اللاحقة كأحسن ما يقدم لها من غذاء النفوس ونثار القرائح . 

إضاءة اولي على معجم لسان العرب :

        يبلغ المعجم حوالي ثمانية آلاف صفحة من القطع الكبيرة ، ناهيك عن أنه قاموس لغوي فيه أصول المعاني وجذور الكلام , وإشارته القديمة الحي منها , وفيه التنوع في الشروحات , والاستطراد المؤدية الى الاخبار والطرائف المصاغة تارةً نثراً , وتارةً شعراً , وفيه الكثير من النفع والتأثير , لارتباطه الوثيق بصلب التراث , وإبراز محاسنه وجعله يتكيف مع زماننا الحاضر الذي كثرت فيه الدعوات الى رفض التراث والنظر إليه باستخفاف وتشكيك , والى اعدّ حضارة تالدة , لم يعد لها شان أو فائدة . ونقول من يشكك في هذا التراث الحضاري الذي كان فخراً للأمة العربية أن كرمها بهذا اللسان لسان القرآن الكريم ، ونقول لهم إن الشيء المدهش في هذا المعجم أن عدد الشعراء المستشهد بهم قد بلغ رقما عاليا ، قرابة ألف ومائتي شاعر ، تراوح عدد أشعارهم ما بين البيت الواحد ، والألف تقريبا .

إضاءات الشعر في لسان العرب :

        يشتمل ( لسان العرب) على أكبر مجموعة شعرية احتوتها المعاجم اللغوية العربية ، إذ بلغت اثنان وثلاثون ألف بيت من الشعر تقريبا . من هذه العدد واحد وعشرون ألفا ، أشار ابن منظور إلى أسماء أصحابها ، وأحد عشر ألفا أغفل ذكر الأسماء .

       وقد تبين أن ابن منظور لم يلزم نفسه عناء التحقق من هوية الشعراء أثناء ايراد شواهده ، فيذكر الشاهد ويذكر له اسمين أو أكثر ، تاركا للقارئ عناء التحقق وحده ، مع أنه أقدر من غيره على معرفة أصحاب الشواهد وهو الذي أطلع على معظم مصادر الشعر ، وصنف مئات الكتب الأدبية واللغوية . وقد تراوحت الابيات الشعرية التي ذكر أصحابها ما بين جاهلي ، ومخضرم والإسلامي وأموي , ونسبة ضئيلة للعرض العباسي ...وبصيغة حسابية أفضل ومن خلال ثلاثمائة شاعر ذكرهم ابن منظور وحسب عصورهم الأدبية ، جاءت نسبة الانتماء الزمني كما يأتي :

40% جاهلي   10% مخضرم   15% إسلامي   30% أموي  5% عباسي

      ويعد بعض الكتاب والباحثين في حال أستثناء العصر العباسي ، أن مصادر اللغة العربية وجذورها تعود الى عصر واحد أي الى العصرين الجاهلي والإسلامي ، وإن هذه اللغة رغم تدافع العصور ، ظلت مرتبطة بماضيها وجذورها الجاهلية والإسلامية ، ارتباطا بعيد المدى ، جعل النحاة واللغويين والمؤلفين ، لا يلتفتون كثيراً الى القدر الكبير الذي حصلته اللغة في العصور العباسية حيث النقل والترجمة والاقتباس وشيوع أفانين الثقافة الاعجمية في جمع الحقول والدرجات ، شيوعا جعل العرب يقبلون على استيعاب تلك الثقافات استيعاباً سليما أدى بهم الى عطاء ليس مماثلا وحسب ، بل متفوق ، وصل حد التصدير والإنارة لجميع الأمم والشعوب المعاصرة لهم آنذاك . وما تقدم تعني جملة أشياء منها ، قدرة اللغة على الجمع بين الأصالة بمعناها التاريخي ، والتطور بمعناه الاستيعابي . وبمعنى آخر ، أن الصراعات المستجدة بين عصر وعصر ، كانت أشكال العيش وأساليب التعبير ، كما كانت صرعات سياسية ، شعوبية وفكرية دينية ، ظلت اللغة إزاءها بمنأى عن الحزازات والحركات التي يشهدها زماننا الحاضر من حين لآخر . هذا عن الشعر ، ونسبة انتمائه إلى العصور .

 إضاءات القيمة الشعرية في لسان العرب...

        إن أبرز ما قدمته المادة الشعرية في ( لسان العرب ) هذه الجمهرة الضخمة من الشعراء الذين وصل عددهم ما يقارب ألالف والمائتي شاعر، ينتسبون – كما ظهرت الاحصائية الى العصرين الجاهلي والإسلامي ، وهو دليل على إنشاديه الآدب – إنشاداً شفوياً بمعظمة ، يقوم على البديهة او السليقة الشعرية التي تجعل من الكلام المنطوق شيئاً متناسقاٍ ، منظوماً ، أن لم يكن شعراً فهو نثرً مسجع مقفى . ويأتي الدور الكبير والعظيم الذي قام به ابن منظور في كتابه إلى عدة امور :.

أولاً / من الدور العظيم الذي قام به الشعر في شرح القواعد النحوية والصرفية والمعالم الحضارية القديمة للقبائل العربية وشعائرها ومسمياتها ومنطوقها .

ثانيا/ ان من الشعر لبعض الشعراء المغمورين ، أو حتى المعروفين ليست موجودة إلا في(لسان العرب) شأنه في ذلك شأن معظم المصادر الشعرية القديمة – كالشعر والشعراء ، والمفضليات ، وألاصمعيات وجمهرة أشعار العرب والأغاني ، وغيرها .

ثالثا / ورد فيه أعداد كبيرة من أبيات الشعر لرجال ليسوا شعراء ، أو بالأحرى شغلوا مناصب وتميزوا بمزايا غير ميزة الشعر ، وعلى راس هؤلاء : الإمام علي بن أبي طالب الذي دوُن له أبن منظور أكثر من عشرين بيتا ، ويأتي بعده باقي الخلفاء وبعض الصحابة الكرام ، وبعض نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

رابعا / طريقة ابن منظور في إيراد الشواهد ، حسناتها وسيئاتها . تقوم طريقة ابن منظور على استيعاب مضامين المعاجم الخمسة وتسجيلها تسجيلا دقيقا .

خامسا/ السرد الدقيق في ذكر الأبيات والحفاظ على أصل روايتها . كإيراد البيت الواحد لأكثر من شاعر.

سادسا / تقصي المعاني والوجوه المختلفة للشيء الواحد ، حتى ولو كان الأمر تكراراً ، كذكر مختلف الاقوال فيه أو الشواهد على مظاهر مختلفة .

سابعا / ايراد شواهد شعرية بصورة مزاجية ، غير منظمة ، كالبيت الواحد والبيتين ، والمقاطع التي تشتمل على بضع أشطر , وفي بعض الأحيان يتضمن الشاهد الواحد قصيدة بكاملها تتجاوز العشرين أو الثلاثين بيتا مع عدم التقيد بذكر أصحاب الشواهد .

ثامنا / تأكيده على انتماء الشاعر إلى عصره مع شرح الظرف والمناسبة ، وتعليل اسمه في كثير من الأحيان .

تاسعا / روح الورع والتقوى البادية في كل ما يقول وخاصة ما يتعلق بالصحابة والأولياء ،اذ انه لم يذكر أحدا منهم إلا وذكر عبارة ( رضي الله عنه ) .

عاشرا / فيه العشرات ، بل مئات الطرف والحكايات الغريبة ، جميعها خلدها أبن منظور في كتابه .

         والأمر الآخر الذي لابد ذكره هو النثر وشواهده المتنوعة ، ونسبتها الى الشواهد الشعرية لقد توصل الباحثين الى نسب تقريبية وهي :-

12% آيات قرائية ، 15% أحاديث نبوية ، 20% شواهد نثرية مختلفة ، 53% شواهد شعرية

         لعل هذه الإحصائية تبين بوضوح أكثر ، ما كان الشعر من أهمية وخطورة في بلورة الألفاظ العربية : تركيبا وتوضيحا وشروحا لغوامض معانيها واستعمالاتها المتعددة وكما تبين من الإحصائية أعلاه أن الشعر الجاهلي احتل نصف العدد أو يزيد ، والنصف الثاني قد احتله الشعر الإسلامي ، إذ أن معظم الشواهد النثرية الـ 20% أحاديث لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم او أصحابه .     

      كل ذلك يؤكد قيمة الشعر في معجم لسان العرب ، وفضله في كشف مواهب كثيرة ومزايا شعرية متعددة في تراثنا الأدبي .