مقال أكاديمي لدكتورة نصره أحميد جدوع

مقال أكاديمي لدكتورة نصره أحميد جدوع

 

 

    تجليات القصة القصيرة بين الظاهر والمضمر

د. نصرة احميد جدوع

    تعرف الصياغة المضمرة بأنها ضرب من ضروب الكلام المرموز, والقول المضمر يوازي المبطن الخفي, وهو يقابل الاغراق بالمفهوم البلاغي, ويعرف النسق المضمر بانه كل دلالة نسقية مختبئة تحت غطاء جمالي, متوسلة بهذا الغطاء لتفرس كل ما هو غير جمالي في الثقافة, كما وصفت المضمرات بكونها اقنعة تخبئ تحتها الانساق) ..ومن الطبيعي ان نجد مفهوم النسق المضمر دائرا في فلك الاتجاه الثقافي في فهم النص وطبيعة العلاقة بينه وبين القارئ المنتمي الى بيئة ثقافية معينة,- الغذامي- النقد الثقافي-

و النسق المضمر لا يكون واعيا يظهر عبر خطاب فاعل ولغة  ،بل هو ممارسة لها خصوصيتها ،فهي تكون في الوعي المبدع متغلغلة في ثقافته وقصديته المرتبطة بالغايات  لديه, وهو نسق متحرك متغير مرن يتغير مع تغير الحالات ولمشاعر ونقاط الاحداث في المتن السردي

وفي القصة القصيرة يتجاوز النسق المضمر التركيب العباري بإطاره القواعدي لينطلق من سكون المعنى الى فضاء الدلالة محاولا كسر القواعد اللغوية , ويعتمد هذا الخروج عن القوالب على الخزين اللغوي والفكري والثقافي والادراك لدقائق المعاني والقدرة على نقل دقائق الافكار والهواجس , ومن يضع معاييره الخاصة هو الكاتب نفسه, ما يجعل التلقي يواجه صعوبة في فهم الانساق وتتبعها, لكنها بالمقابل تجعله شريكا في انتاج النص نفسه, ومن جانب آخر يمثل حضور المتلقي المتشكك المجهول اكبر التحديات التي يواجهها الكاتب.

والقصة القصيرة تشتمل على مجموعة من الاصوات المتداخلة المتعارضة داخل النص متفوقة على مفهوم الشخصية التقليدي في النص السردي, فهي صوت وليست سمات جسمانية جامدة او صورة معبرة عن ثقافة مكانية او ارتباط زمني, ومن هنا يأتي تفرد القصة القصيرة في كونها تتسع للتأويلات على الرغم من محدودية مساحة النص مقارنة بالرواية.

وبالنسبة للمضمرات فتكمن وظيفتها في اثارة فضول المتلقي وابهاره بالخروج عن المألوف وهي تقوم على المفارقة لتحقق الغاية التي وجدت لأجلها, كما أنها تنطوي على مستوى عميق من المعنى يكون قابلا للتأويلات عند جمهور القراء , حتى يخال كل قارئ ان تلك القصة قصته الشخصية وإن لم تكن كذلك, تقول نانسي كريس في قوة الدوافع :" من يقرأ الصحيفة اليومية يعلم بأن البشر قادرون على فعل اي شيء وان للبشر اسبابا في ترك ثرواتهم لقططهم واستخدام الفؤوس في جرائم القتل وغيرها...ففي الاعمال الخيالية (وهي التي لم تحصل) لا تثير جميع الاحداث اهتمام القرّاء بشكل متساو وعلى الكاتب النظر الى دوافع الشخصية ليس باشتراطات الشخصية ذاتها انها غاضبة- انها تحب- انها مجنونة- ولكن باشتراطات القراء."

وهذا يعني أن المتلقي قد يواجه بعض الصعوبات ،وهو يحاول أن يرصد النسق المضمر يستخرجه ،ما لم يلجأ إلى مجموعة من الكفاءات اللغوية ،المتعلقة بالنظام اللغوي و مستويات المعنى المتعلقة بالسياق الخارج عن الكلام ،وما يتعلق  بقوانين

الخطاب ،و الكفاءة المنطقية أي المنطق الطبيعي ،و هذه الكفاءات التي يراها سيرل ضرورية لفك ترميز الانساق الثقافية المضمرة ،و ليذا يتطلب النسق الثقافي المضمر نوعا خاصا من القراءة ،و هذه القراءة يمكن أن نسميها القراءة الثقافية.

وهو أمر يطرح اشكالية كبيرة امام الكتّاب لأنه يوجب عليهم مراعاة مستويات متعددة من القراء بدءا من القارئ الهاوي الى القارئ النهم المحترف, والذي سيكون شريكا في اعادة انتاج النص تبعا لقدراته ودرجة قربه من النص.

ومع ذلك فان ما يخفف وطأة الامر على كاتب القصة القصيرة هو سمات هذا النوع من السرد والذي يتميز بالتركيز على جانب واحد تتفاوت اقسامه بين الوضوح والاضمار يتحرك القارئ في مساحته ويضيف اليها ملامح من رؤيته الخاصة التي تجعل النص ينزاح الى جهة لا يتوقعها الكاتب, إذ  ان العمق الذي تحققه اللغة القصصية  يجعل القارئ شريكا في تأثيث مساحة السرد التي تختبر فيها مشاعره, وهذا يتحقق من خلال آليات بلاغية واسلوبية متعددة.

ولتحقيق هذا التواصل بين القارئ والنص المشتمل على انساق مضمرة يرى الغذامي ضرورة تحقق ثلاثة امور:

- وجود نسقين يحدثان معا و في آن واحد ،في نص واحد ،أو فيما هو حكم النص الواحد .

- يكون أحدهما مضمر و الاخر علني ،و يكون المضمر نقيضا و ناسخا للمعلن ،فمجال النقد الثقافي هو كشف الانساق المضمرة الناسخة للمعلن .

- لابد أن يكون النص ذا قبول جماهيري ،و يحظى بمقروئية عريضة و ذلك لكي نرى ما لها من فعل عمومي ضارب في الذهن الاجتماعي والثقافي.

.

بناء الدلالة المضمرة:

ان المهارة اللغوية والاستثمار الخلاق للغة والتمكن من سبر اغوارها تمثل ميزة

للكتاب والقراء على حد سواء, تجعلهم يتفوقون عمن سواهم في ابداء الكتابة والتلقي,ولتحقق ذلك لابد ان يرتفع مستوى النص عن المباشرة والاظهار , ولا يعني ذلك ان الاظهار هو عنصر سيء او يقلل من قيمة النص, لكن كثرته وطغيانه على مساحة النص يجعل النص مكشوفا يفتقد للعمق الذي يجذب القارئ فما قيمة الحدث او حركة الشخصيات او التشكيل المكاني اذا كانت مجرد عناصر تلتئم لتشكل متن السرد وحسب, من غير ان يكون لها دور في استثارة المتلقي وسحبه لداخل النص ليؤدي دوره في بنائه.

يرتبط الاضمار في السرد بالوظيف التي يؤديها قد اقترح ريمون كينان المصطلحات الاتية التي تحدد مستويات الاضمار في السرد:

-         سرد الدرجة الاولى وهو السرد غير المضمر او المتضمن لسرد آخر.

-         سرد الدرجة الثانية: وهو المضمر او المتضمن في سرد الدرجة الاولى.

-         سرد الدرجة الثالثة وهو المضمر في سرد الدرجة الثانية وهكذا.

وبالنسبة للغة السرد فإن ما يضعف القصة القصيرة طغيان لغة كاتبها على لغة الشخصيات ويحصل ذلك من خلال تكرار العبارات ووضوحها المفرط وواقعيتها المفرطة التي تجعل القصة اقرب الى التحقيق الصحفي حتى وان كانت شخصياتها متخيلة, ذلك لان حضور الواقع في القصة يجب ان يكون محكوما بحدود لان اللغة القصصية كما توصف اداة سحرية للتخييل الذي يأخذ القارئ خلف حدود الواقع ويصور المعاني الكامنة فيما يبدو مألوفا من الاشياء والافعال.

فليست الشوارع كما هي على الحقيقة مجرد اماكن للمرور يختلط فيا البشر بالسيارات بل هي اماكن ترتبط بحالة زمنية او ذكرى او ارتجاع غير مدرك من قبل الكاتب الذي ينساق لهاجس داخلي يعود به الى قطعة زمنية ماضية من حياته .

وهناك ادوات لتحقيق الدلالة المضمرة منها المجاز بوصفه آلية انتاج خطابية تستثمر امكانيات اللغة وقدرتها الايحائية التي تمتلك قيمة دلالية يحتاج كشفها الى حفر في اعماق اللغة للبحث عن المعنى المضمر ولتحقيق ذلك لابد من ان يتطور مفهوم المجاز ليواكب التعقيد الذي اصاب لغة السرد ويخرج عن اطره التقليدية .

وكذلك التورية التي تحقق الازدواج بين بعدين دلاليين احدهما قريب والآخر بعيد على ان تكون بمفهوم اوسع من مفهومها البعيد لا لكون المضمر هو الاساس وحده الذي يجب ان تقوم عليه بل حتى المعلن يجب ان يكون كفؤا بدرجة تسمح بإضمار معنى آخر يفضي اليه .ثم يأتي دور الدلالة النسقية وبناء التركيب الذي يؤدي دورا فاعلا في تشكيل المعنى المضمر .

ومن وحي التجربة الخاصة في الكتابة القصصية اجد اني ملزمة بكشف بعض النقاط التي تؤثر في الكاتب:

-         الكتابة ليست فعلا واعيا او مسيطرا عليه

-         نحن نحسب للقارئ حسابا كبيرا لكننا محكومون بتصور القارئ المفترض وهنا يأتي سؤال محوري: هل نكتب ليقرأ الاخرون ام اننا نكتب استجابة لحاجة شعورية داخليه؟ واؤكد ان اي كاتب يخضع لهاتين النقطتين بشكل متفاوت.

-         اول عتبات الاضمار هي العنوان لكنه أخر ما يكتبه الكاتب في اغلب الاحيان ان لم يكتبه في وسط عملية بناء النص.

-         ليس هناك كاتب يستطيع قول كل ما يريد فنحن محكومون بعوامل داخلية وخارجية مؤثرة.