الأزمة الاوكرانية: الاسباب والتداعيات والمستقبل

الأزمة الاوكرانية: الاسباب والتداعيات والمستقبل

 

أ.م.د. اركان ابراهيم عدوان

كلية القانون والعلوم السياسية- قسم العلوم السياسية

لم يعد موضوع الغزو الروسي لأوكرانيا يمثل حرباً محدودةً أو أزمة اقليمية بين دولتين متجاورتين، انما بات يمثل أزمة عالمية من حيث التداعيات الحالية والمتوقعة، وفي مختلف القطاعات الأمنية والسياسية وامن الطاقة العالمي وحتى الأمن الغذائي؛ بسبب اعتماد العديد من الدول وبنسب كبيرة على روسيا لسد احتياجاتها من مصادر الطاقة الاساسية، واعتماد دول كثيرة على المواد الغذائية الاساسية التي تأثرت اسعارها بسبب الحرب الدائرة في اوكرانيا.

وبالتالي، فإن الأزمة الاوكرانية هي ازمة عالمية متعددة التداعيات، وكل الاحتمالات واردة عند التنبؤ بمسارات الاحداث فيها، سواء كانت من ناحية انهاء الحرب الدائرة، أو حتى تحولها الى حرب عالمية ثالثة. ولذلك فإن متابعة تطورات الازمة تستدعي الاجابة على العديد من التساؤلات ولعل من أهمها، ما هي أسباب الأزمة من الأساس؟ والى أي حد ممكن أن يستمر الجانب الروسي بالاستمرار والتصعيد ومقاومة الضغوطات الغربية؟ وما هي أفق الحل المتوقعة للأزمة والتي باتت تؤثر في قطاعات مهمة تخص جميع دول العالم؟ سواء كان ذلك فيما يخص العمل على عدم تطور الأوضاع فيها الى حرب عالمية مفتوحة، أو حتى تداعياتها في مجال أمن الطاقة العالمي أو حتى الأمن الغذائي ؟

مما لا شك فيه هو أن الأزمة الحالية ليست مفاجئة أو غير متوقعة وذلك بسبب مكانة أوكرانيا بالنسبة للجانب الروسي، إذ تحظى بأهمية استثنائية في  استراتيجية الأمن القومي الروسي، والتي يرى فيها الجانب الروسي بان فقدان روسيا لأوكرانيا يمثل أكبر تهديد لأمنها القومي، كونها تمثل المنطقة الجغرافية العازلة والدفاعية الأولى بين روسيا ودول حلف الناتو الذي تحولت استراتيجيته بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي من (الدفاع الجماعي) الى ما يسمى بـ(الأمن الجماعي)، والذي يقوم بالأساس على مبدأ توسع حلف الناتو ليشمل دول أوربا الشرقية المهمة، والقريبة من روسيا، فضلا عن توسيع نطاق مهامه خارج نطاق القارة الأوربية التقليدية، وذلك من أجل محاصرتها والسيطرة على طموحها، وقدراتها المتنامية بالشكل الذي يضمن عدم حدوث أي تهديد مستقبلي تجاه دول الناتو مستقبلاً، وجغرافيا تمثل أوكرانيا المنطقة التي تسمح لدول الناتو وحلفائها بتطويق روسيا ومحاصرتها بشكل تام.

 ومن جانب أخر لم يتوقف الجانب الروسي عن النظر الى أوكرانيا كجزء من الأراضي الروسية، وحتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي لم تعترف روسيا بها كدولة مستقلة وعضو كامل السيادة في المجتمع الدولي حتى عام 1996، واستمرت الرؤية الروسية فيما يخص استقلال اوكرانيا بأنه عبارة عن انفصال مرحلي، بسبب وجود ترابط اثني وعرقي وديني وجغرافي ومصلحي بين البلدين، فضلا عن العوامل التاريخية والثقافية المشتركة، ولهذه الأسباب وغيرها لم تكف روسيا عن التدخل في الأوضاع الداخلية الأوكرانية، وعارضت جميع المحاولات الغربية لاستقطاب اوكرانيا وبالتالي، فإن موضوع التدخل الروسي في اوكرانيا هو أمر غير مفاجئ أو مستبعد، وله جذور قديمة، لعل أقربها هو ضم شبه جزيرة القرم الى روسيا عام 2014 وما تبعها من تداعيات اقليمية ودولية، أثرت حينها في العلاقات الروسية الأمريكية والأوربية بشكل كبير.

وبالتالي فان خطورة موقع أوكرانيا بالنسبة لروسيا تمثل اهم سبب للأزمة القائمة، فهي بوابة الدخول والتحكم بين روسيا واوربا، وقد استخدمها تاريخيا كل من (نابلوين وهتلر) في غزو روسيا، ولذلك فهي تمتلك مكانة جيوسياسية مهمة، فمن يسيطر عليها يستطيع الضغط على الطرف الأخر، وبالأخص الجانب الروسي الذي اذا ما أحكم السيطرة عليها، فإنه يتمكن من حكم شرق أوربا بالكامل، هذا فضلا عن أنها تحتوي على الميناء الوحيدة الصالحة لاحتواء السفن الروسية، وعليه، فإن كل هذه الأسباب وغيرها تفسر أسباب السياسة الروسية تجاه أوكرانيا، والتي توسعت الى خوض الحرب التي أثرت تداعياتها على كافة دول العالم.

اذ ادت تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا الى تصاعد أزمة الطاقة عالمياً بسبب اعتماد دول اوربا على امدادات الطاقة الروسية بنسبة كبيرة، وأثرت كذلك في الأمن الغذائي العالمي بعد صعود أسعار أهم السلع الاستهلاكية الغذائية وهو القمح، والذي أدى الى إحداث موجة غلاء عالمية مفاجئة، هذا فضلاً عن تخوف الدول الاوربية من توسع نطاق الحرب لتمتد الى دول اخرى بالأخص في بعض دول أوربا الشرقية، ومن ثم فقدان السيطرة على الأوضاع ليشهد العالم حرباً عالميةً ثالثة، اذا ما وقعت فإنها سوف تهدد جميع دول العالم بدون استثناء.

وفيما يخص الحدود التي يمكن أن يستمر فيها الجانب الروسي بخوض الحرب والتصعيد ومقاومة الضغوطات الغربية، واحتمال تمدد نطاق الحرب ليشمل غيرها من الدول، أو حتى التحول بطبيعة الحرب من حرب تقليدية محدودة الى حرب غير تقليدية سواء من حيث نوع وحجم الأسلحة، فإن جميع الاحتمالات واردة ولا يمكن الجزم بحل معين، سواء من حيث الطبيعة أو الفترة الزمنية. وقد ثارت العديد من الجدالات في هذا المجال، فمن الباحثين من يؤكد بأن الجانب الروسي يستطيع الاستمرار في الحرب لفترة غير محدودة، وهو يمتلك اوراق قوة وضغط يستطيع من خلالها تحمل تبعات الحرب، والعقوبات التي فرضت عليه، والضغط على الغرب من خلال قطع امدادات الطاقة، مقابل أراء تقول بأن تكلفة الاستمرار في الحرب أو توسيع نطاقها، قد تجبر الجانب الروسي على التخفيف من حدة الحرب، والوصول الى حلول قريبة لها، ومن جانبنا نرى بأن موضوع الطاقة والامن الاقتصادي، يمكن ان يمثل (مفتاح) الحل للأزمة الحالية؛ فبالرغم من قدرة الجانب الروسي على الحاق الضرر بالدول الاوربية من ناحية قطع امدادات الطاقة وهو ما يحدث، إلا ان الضرر الذي سيلحق بالدول الأوربية سيلحق  ايضا بالجانب الروسي بالمقابل، فلا يخفى على اي مطّلع بان الاقتصاد الروسي ليس بالمستوى الذي يؤهله الى المطاولة وتحمل تبعات العقوبات والضغوطات الغربية لفترات طولية، وبالتالي قد تجبر التداعيات الاقتصادية جميع الأطراف الى التفاوض والتوصل الى حل يرضي الجميع ويحقق مصالح الجميع ولو بنسب متفاوتة.

ومن جانب اخر تمتلك روسيا تاريخ يمكن ان نصفه بالـ(الأسود)، فيما يخص الاحتلال وحروب الشوارع، فذكريات احتلال افغانستان والشيشان، وحروب العصابات الطولية التي استزفت الجانب الروسي في ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين، وكانت من العوامل التي اضعفت الاتحاد السوفيتي وأدت الى انهياره آنذاك، وانهكت الاقتصاد الروسي، كلها مسائل مهمة قد لا تغيب عن ذهن صانع القرار الروسي، والذي لا يمكن ان يجازف في خوض حرب استنزاف طويلة المدى في اوكرانيا، قد تتحول الى افغانستان أو شيشان ثانية تستزف وترهق القدرات الروسية، وتعرقل التقدم والمكانة التي استطاعت روسيا الاتحادية من تبوئها بعد تولي (فلاديمير بوتين) للسلطة في روسيا، والذي يمتلك من الخبرات العملية والخصائص والسمات الشخصية، التي تؤهله لاستيعاب ودراسة كافة أبعاد الأزمة وتداعياتها وتطوراتها.

وبالتالي، قد يلجأ الجانب الروسي الى الاكتفاء بإسقاط النظام السياسي في أوكرانيا، ومن ثم الانسحاب بعد ضمان وجود نظام سياسي حليف لروسيا، أو قد يعمل على تفكيك أوكرانيا الى دوليات واقاليم متعددة ويحتفظ بالسيادة أو بعلاقات متينة مع أقربها و أكثرها اهمية بالنسبة لروسيا، وأرى بان موضوع التفكيك قد يكون مستبعدا كونه ممكن ان يفتح الباب للجانب الأخر (دول الناتو) للتدخل في الأجزاء أو الاقاليم التي ستكون بعيدة عن النفوذ الروسي، ومن ثم فإنها ستمثل تهديد مستقبلي جديد، وأيضاً قد يتسع نطاق الحرب وحدودها بما يهدد الأمن العالمي والانساني بشكل عام، فكل الاحتمالات واردة، واندلاع الحروب حتى (النووية) عن طريق الخطأ أو سوء التقدير أمراً وارداً أيضاً.

ولكن الأمر المؤكد هو أن موضوع انضمام اوكرانيا لحلف الناتو، أو حتى التقارب، بات امراً مستحيلاً، حتى وان استمر النظام السياسي الحاكم في اوكرانيا في السلطة، فلا الجانب الغربي مستعد للدخول بحروب قد تهدد وجود وكيان ومصالح الدول الاوربية من أجل ضم دولة غير مستقرة هذا من جهة، ولا حتى الرئيس الاوكراني الحالي أو من سيخلفه ممن أن يفكر في إثارة حفيظة الجانب الروسي، والاقتراب من المصالح الروسية وتهديد الأمن القومي الروسي بشكل أو بأخر.