التداعيات السياسية والاقتصادية للتدخل الروسي في اوكرانيا

التداعيات السياسية والاقتصادية للتدخل الروسي في اوكرانيا

   كان الغزو الروسي لأوكرانيا سريعًا ودراماتيكيًا ، لكن العواقب الاقتصادية العالمية ستكون أبطأ بكثير في الظهور وأقل إثارة. ومع ذلك ، بخلاف أوكرانيا ، فمن المرجح أن تكون روسيا هي الخاسر الاقتصادي الأكبر على المدى الطويل من الصراع، وإن عدم وجود رد عسكري من جهة الغرب على روسيا الى الآن هو فعلٌ منطقي، ويحمل الكثير من الذكاء وراءه.

    سنعمد للتعرض لأهم التداعيات السياسية والاقتصادية التي من المحتمل ان يفرزها الغزو الروسي لاوكرانيا.

اولاً: التداعيات السياسية

  ان العواقب طويلة المدى لا تزال صعبة التقييم في الأزمة الحالية ، ولكن "على الأقل في أجزاء من أوروبا ، يبدو أن نظام ما بعد عام 1990 في حالة خراب - خاصةً ، البلدان التي ليست بالفعل جزءًا من الناتو أو الاتحاد الأوروبي ".

إن سنة التدافع بين القوى العظمى هي سنة كونية، قال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (سورة البقرة: 251).

أن بوادر تشكل اتجاه عالمي نحو محاور جديدة من الأقطاب الإقليمية والدولية وملامح التغير في هيكل النظام العالمي وتوازن القوة فيه باتت واضحة للعيان، وهذا لا يعني أن قوتي الولايات المتحدة وأوروبا تتجهان إلى الضعف بقدر ما هو إعادة توازن القوة في النظام الدولي الجديد، فأين موقع العرب من هذا التدافع.

سيضع فوز روسيا في أوكرانيا رمزا ملهما عالميا أمام الأقطاب الجديدة (كالصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها) والدول المتضررة من سياسات الولايات المتحدة والغرب ويدعوها إلى الالتحاق بالمنظومات الجديدة التي ربما تنشأ بعد الحرب الروسية الأوكرانية. لتضع ملمحا جديدا يشكل نظاما عالميا جديدا تحلم به الكثير من الدول المتضررة من سيادة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية. لاسيما وان اساست هذا التحالف موجودة تتجسد في تكتل البريكس.

كما ان ذلك سيشكل عاملا ضاغطا على الدول الأوروبية الشرقية المحيطة بأوكرانيا للتفاهم مع روسيا بألا تكون عاملا مهددا لروسيا، خصوصا إذا ما اختلف الأوروبيون حول مفهوم الأمن الإستراتيجي وتأثير العقوبات الاقتصادية المرتدة على الاقتصاد الغربي.

  من المحتمل أن يعني هذا أن الدول الأوروبية ستصبح مرة أخرى ، كما في الحرب الباردة ، أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة لضمان الدفاع

 هناك أيضًا خطر أن يكون لاستفزاز روسيا للنظام الدولي تأثير مزعزع للاستقرار في أجزاء أخرى من العالم حيث تترابط مناطق الأزمات معًا باتفاقات وضمانات هشة من قوى أخرى.

إن هذا "الانتصار" المدوي لروسيا سيؤدي إلى هزائم كبيرة لروسيا في نهاية المطاف، الأمر الذي سيؤثّر سلباً على روسيا في المدى الطويل. ويبدو أن الغرب قد تعمد دفع روسيا للسير في هذا الاتجاه.

وبدءاً من اليوم التالي لـ "الانتصار"، لن يكون الوضع في صالح روسيا بوتين، خاصةً وإنّ الغرب قد عمل على تخفيض تكاليف مواجهته مع روسيا قدر الإمكان من خلال عدم الدخول في صراع عسكري مباشر معها.

 لقد توقع الخبراء الأمريكيون هذا الذي يحدث الآن منذ منتصف التسعينيات. يومها تم تحذير كلينتون ، من انّ توسع الناتو شرقاً من شأنه أن يقود روسيا في اتجاهٍ غير سار.

  وحتّى إذا احتلّ بوتين كييف، وتمّ اعتقل زيلينسكي، أو هرب هذا الأخير خارج أوكرانيا، وتشكلت حكومة جديدة موالية لروسيا، فإنّ هذه الحكومة ستكون أكثر عجزًا وأكثر عزلة وكراهية من قبل الأوكرانيين، من حكومة يانوكوفيتش(رجل الدولة الموالي لروسيا الذي أطيح به في أوائل عام 2014).

 

 

 

 

 

 

ثانياً: التداعيات الاقتصادية:

  سيؤثر الصراع بين روسيا وأوكرانيا على الاقتصاد العالمي من خلال ثلاث قنوات رئيسية: العقوبات المالية وأسعار السلع واضطرابات سلسلة التوريد، اذ لا شك أن العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية ستكون مؤثرة على الاقتصاد الروسي، ولكن بالمقابل أيضا ستكون هناك ارتدادات لهذه العقوبات على أوروبا والولايات المتحدة. الصراع بين روسيا وأوكرانيا لن يكون له سوى تأثير اقتصادي ومالي طفيف ومؤقت. بعد كل شيء ، اذ تمثل روسيا 1.7? فقط من الاقتصاد العالمي (وأوكرانيا أقل بكثير).

1.    الاثر على الاقتصاد

الاقتصاد العالمي الذي لازال يعاني من آثار جائحة كورونا، ستعزز الحرب الروسية من التداعيات العالمية المباشرة هي ارتفاع التضخم وانخفاض النمو وبعض الاضطرابات في الأسواق المالية مع فرض عقوبات أشد ستكون التداعيات طويلة المدى بمثابة ضعف إضافي لنظام سلاسل التوريد المعولمة والأسواق المالية المتكاملة التي هيمنت على الاقتصاد العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991.

·       الاثر على اسعار الطاقة:

ستؤثر هذه الزيادات في أسعار الطاقة سلبًا على الاقتصاد العالمي. أوروبا معرضة للخطر بشكل خاص ، لأنها لم تفعل شيئًا يذكر في السنوات الأخيرة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي ، وفي بعض الحالات - لا سيما ألمانيا ، التي تخلت عن الطاقة النووية - أدت إلى تفاقمها.وخاصة إذا اتفقت أوروبا مع الولايات المتحدة على ضرورة تأجيل "نورد ستريم 2Nord Stream" خط أنابيب باستثمارات غربية لنقل الغاز الطبيعي من مدينة فيبورج في روسيا إلى مدينة جرايفسفالد في ألمانيا" إلى أجل غير مسمى.

 وحيث تصل واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي إلى 40% حاليا، وستزداد مع تشغيل خط نورد ستريم 2، لكن في حال فرضت العقوبات على روسيا، أو كردة فعل روسية لمحاصرة أوروبا، فإن أسعار الطاقة "الغاز خصوصاً" سترتفع بشكل كبير وستؤثر في جميع الدول الأوروبية. ارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى التضخم الذي تعانيه دول أوروبا وأمريكا، سيؤديان إلى خفض نتائج النمو في كلا الجانبين، وسيؤثران بالتالي في النمو العالمي.

 

اما البلدان المستوردة للنفط  فانها ستواجه رياح معاكسة من ارتفاع الأسعار. الولايات المتحدة أكثر تحوطًا: نظرًا لأن إنتاجها من النفط يساوي استهلاكها من النفط ، فإن النفط الأكثر تكلفة يكون محايدًا تقريبًا بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. لكن ارتفاع أسعار النفط سيضر بالمستهلكين الأمريكيين بينما يساعد شريحة محدودة أكثر من الشركات والعاملين المرتبطين بصناعة النفط والغاز. سيؤدي ارتفاع الأسعار أيضًا إلى زيادة التضخم ، الذي وصل بالفعل إلى أعلى مستوياته منذ جيل في الولايات المتحدة وأوروبا والاقتصادات المتقدمة الأخرى.

 

·       الاثر على اسعار الحبوب الغذائية:

إن روسيا وأوكرانيا من أكبر دول العالم إنتاجاً وتصديراً للقمح في العالم، فأسواق الحبوب العالمية وتحديداً القمح تراقب عن كثب ما يحدث في أوكرانيا، فكييف إحدى أكبر مصدري القمح والذرة في العالم، ويمكن أن تشهد الأسعار ارتفاعاً حاداً خلال الشهور المقبلة إذا أخذت الأزمة منحنيات دموية.

وتعرف أوكرانيا بأنها سلة خبز أوروبا، وتوقعات مجلس الحبوب العالمي تشير إلى أنها ستكون ثاني أكبر مصدر للحبوب هذا العام، وإدارة الزراعة الأمريكية تتوقع أن تبلغ صادرات أوكرانيا من الحبوب لهذا العام عشرة ملايين طن، ونعتقد أنه لن توجد مشكلة حادة فيما يتعلق بالإنتاج والصادرات الأوكرانية من القمح والذرة هذا الموسم.

ثانياً الاثر على القطاع المالي والمصرفي

 سجل الروبل أدنى مستوياته القياسية ، وانخفض بما يصل إلى 30? مقابل الدولار ، في حين رفع البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة بأكثر من الضعف إلى 20?.

  تأثرت استثمارات الكثير من الشركات بسبب هذه الأزمة، إضافة إلى تأثر القطاع المصرفي والحوالات المالية، وتشكل مخاطر سداد القروض البنكية لروسيا تجاه البنوك الغربية، كما أن الأحداث تسببت خلال الفترة الماضية في إرباك سوق السندات والعملات للدولتين، وقد تزيد مخاطر ضعف الأداء لهما. سيتعرض جميع دول العالم لآثار هذه الأزمة، وقد تزيد في بعض الدول عن دول أخرى بسبب الارتباطات الاقتصادية، مما يزيد من حجم التأمينات لعدم وضوح الرؤية وزيادة درجة المخاطر، وعدم وجود أمل بحل الأزمة قريباً.

وقد انعكس ذلك مباشرة في إحداث خسائر كبيرة في البورصات العالمية، مما قد تكون هذه الأحداث نذيرا بتشكل تكتلات اقتصادية وعسكرية وسياسية عالمية جديدة تغير من خريطة العالم.

اما ما يتعلق بنظام سويفت

يقصد بالسويفت:اختصار لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك هي منظمة تعاونية لا تهدف للربح تقوم بتقديم خدمة المراسلات الخاصة بالمدفوعات المالية على مستوى عالٍ من الكفاءة وبتكلفة مناسبة نشأت فكرة "سويفت" في نهاية الستينيات مع تطور التجارة العالمية، وتكونت المنظمة العام 1973 ومقرها الرئيس بلجيكا، وبدأ نشاطها العام 1977.ويهدف هذا النظام إلى تقديم أحدث الوسائل العلمية في مجال ربط وتبادل الرسائل والمعلومات بين جميع أسواق المال، من خلال البنوك المسؤولة عن تنفيذ ذلك بمختلف الدول، وبذلك يتمكن المشترك من مقابلة احتياجات العملاء الأجانب والمحليين أيضاً. تستخدم البنوك نظام "سويفت" لإرسال رسائل موحدة حول عمليات تحويل المبالغ فيما بينها، وتحويلات المبالغ للعملاء، وأوامر الشراء والبيع للأصول.

وبحسب آخر إحصائية صادرة عن منظمة "سويفت"، فقد تجاوز عدد المؤسسات المالية والبنوك المشاركة فيها 11507 مشتركا، حتى نهاية شهر آذار2020، موزعين على أكثر من 200 دولة حول العالم.

وفقاً لجمعية "روسيفت" الوطنية الروسية، تعد روسيا ثاني أكبر دولة بعد الولايات المتحدة من حيث عدد مستخدمي نظام "سويفت"، حيث تنتمي حوالى 300 مؤسسة مالية روسية إلى النظام، أي أن أكثر من نصف المؤسسات المالية الروسية أعضاء في "سويفت".

ويرى خبراء أن استبعاد دولة كبيرة كروسيا، وهي مصدر رئيسي للنفط والغاز للأسواق العالمية، يمكن أن يدفع موسكو إلى تسريع تطوير نظام نقل بديل، مع الصين على سبيل المثال.

ثالثاً: التداعيات على المنطقة العربية

بالرغم من مضي كل هذا الوقت على الحرب، وتزايد التدافع الغربي مع روسيا، فإنه لم يلجأ العرب بمؤسساتهم السياسية أو الاقتصادية لمناقشة تأثيرات هذه الحرب على شعوبهم ومستقبلهم.

إن أهم تأثيرات هذه الحرب هي التأثيرات الاقتصادية، وانقطاع سلاسل الغذاء بالدرجة الأولى، إن أهم سلع الحياة النفط والغاز والقمح (الطاقة والغذاء)، وكلاهما ستقل إمداداتها وترتفع أسعارهما وسيتأخر توريدهما.

وسيؤثر هذا الانقطاع بشكل مباشر على كثير من الدول العربية، فالدول العربية ذات مستويين، المنتجة للطاقة والمستهلكة لها، والمستوردة للقمح والمنتجة له.

فدول كمصر تعتبر أكثر دولة استيرادا للقمح الروسي والأوكراني بنسبة 50%، ولن تستطيع شراء القمح بالسعر الجديد، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر المصدرين للقمح، وتعتبر روسيا المصدر العالمي الأول للغاز. كما أن اليمن تعتبر أكبر دولة سيهددها انقطاع سلاسل الغذاء، وخصوصا القمح، على ضوء المحنة والحرب القائمة حاليا، إذ يحصل على نصف المتطلبات من الحبوب من أوكرانيا.

وتعد سوريا "المحمية الروسية" ملزمة بشراء القمح الروسي لحاجتها. ومع تراجع الاحتياطات النقدية للسودان، فهو مهددا أيضا، وتأتي الجزائر لتكون ثانية مستهلك للقمح في أفريقيا، وستستفيد الولايات المتحدة من بيع قمحها بأسعار جديدة.

أما الدول المنتجة للطاقة فإنها ستستفيد من ارتفاع الأسعار وتستطيع التغلب على ارتفاع الأسعار، لكنها ستتعرض للضغوط الروسية والأوروبية والأميركية من أجل توفير الكميات اللازمة لتغطية عجز موارد الطاقة (النفط والغاز)، وهذا سيجعلها تدفع كلفا عالية من الالتزام (قطر اعتذرت عن قدرتها الكافية، والسعودية رفضت رفع إنتاج النفط بضغط أميركي).

ختاماً لا شك أن روسيا قبل الدخول في الحرب درست نتائج المقاطعة الاقتصادية واتخذت إجراءات لتقليل الآثار الاقتصادية للعقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية والدولية.

إذ تعتبر روسيا مصدرا لأهم سلعتين في العالم الغاز والنفط من جهة، والقمح من جهة أخرى، وهي أهم حاجات العالم (الطاقة والغذاء)؛ وبالتالي فإنه يمكن الاستعاضة عبر نظام المقايضة بدون سويفت، وتستطيع روسيا أن تستفيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز والقمح في إيراداتها لمعالجة آثار هذه العقوبات.

على المدى الطويل ، من المرجح أن تكون روسيا هي الخاسر الاقتصادي الأكبر من الصراع (بعد أوكرانيا ، التي ستتجاوز خسائرها بكثير ما يمكن قياسه في الحسابات القومية). ظل الاقتصاد الروسي ورفاهية سكانها في حالة ركود منذ ضم الكرملين لشبه جزيرة القرم عام 2014. من شبه المؤكد أن تداعيات الغزو الحالي واسع النطاق ستكون أكثر حدة بمرور الوقت. ستؤثر العقوبات بشكل متزايد ، وستؤدي العزلة المتزايدة لروسيا ، فضلاً عن تزايد حالة عدم اليقين بين المستثمرين ، إلى إضعاف التجارة والروابط الاقتصادية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك ، يمكن توقع أن تخفض أوروبا اعتمادها على الوقود الأحفوري روسيا.

 

ستكون العواقب الاقتصادية طويلة المدى لبقية العالم أقل خطورة بكثير مما هي عليه بالنسبة لروسيا ، لكنها ستظل تحديًا مستمرًا لواضعي السياسات. هناك خطر ، وإن كان غير مرجح نسبيًا ، يتمثل في أن ارتفاع التضخم على المدى القصير سوف يصبح جزءًا لا يتجزأ من توقعات التضخم غير المقيدة بشكل متزايد ، وبالتالي يستمر. إذا حدث ذلك ، فستصبح مهمة البنوك المركزية الصعبة بالفعل أكثر تعقيدًا.

د. مهند حميد مهيدي 

كلية القانون والعلوم السياسية / قسم العلوم السياسية / جامعة الانبار 

المصادر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ريتشارد غالين، ما الدوافع وراء التدخل الروسي في أوكرانيا؟ - BBC News عربي

2. جواد العناني، في الآثار الاقتصادية لأزمة أوكرانيا (alaraby.co.uk)

3. ECONOMIC CONSEQUENCES OF THE RUSSIA-UKRAINE CONFLICT: STAGFLATION AHEAD,

 https://www.coface.com/News-Publications/News/Economic

4. مدحت نافع، التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الاوكرانية، https://www.shorouknews.com/columns/