الاستاذ الدكتور  خليل محمد سعيد مخلف

الاستاذ الدكتور خليل محمد سعيد مخلف

 

 

العدول وأثره الصرفي في البيان القرآني

أ.د خليل محمد سعيد مخلف

جامعة الانبار

كلية التربية للبنات – قسم اللغة العربية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ...

قبل البدء في بيان أثر العدول الصرفي في البيان القرآني لابد من بيان مفهوم العدول ، والعدول الصرفي .

فالعدول : هو الخروج عن الأصل اللغوي أو القاعدة اللغوية أو الاستعمال اللغوي .

مفهوم العدول في التراث العربي :

وردت في تراثنا العربي إشارات إلى مفهوم العدول ، إذ تنبه على هذه الظاهرة العرب وعلماؤنا بمفهوم مغاير ، فأجازوا للشاعر ما لم يجيزوه للناثر من عدول

عن أصل اللغة وظهر أكثر وضوحاً في العصر الاسلامي لوقوعه في لغة القرآن الكريم فتناوله علماء العربية والأصول والفقه ، وأشاروا إليه بتسميات مختلفة في المصطلح ، فورد بلفظ (المجاز ، والنقل ، والإنتقال ، والتحريف ، والانحراف ، والرجوع ، والإلتفات ، والعدول ، والصرف ، والانصراف ، والتلون ، ومخالفة مقتضى الحال ، والخروج ، وشجاعة العربية ، والحمل على المعنى ، ونقص العادة .... وغير ذلك) .

فمثلاً ورد استعمال لفظ (الخروج) في دراسات الاعجاز القرآني ، مثل قول الأصمعي: (إنَّ الشيء إذا فاق في حسنه قيل إنه خارجي) وورد استعمال لفظ مصطلح (العدول) في وصف الكلام الأدبي إلى جانب القول الشعري ، قال عبد القاهر الجرجاني "واعلم أن الكلام الفصيح ينقسم إلى قسمين : قسم تعزى المزيةُ والحسن فيه الى اللفظ ، وقسم يعزى ذلك فيه الى النظم ، فالقسم الأول للكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حدّ الاستعارة ، وكل ما فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر "

وغيرها من الأقوال والاشارات الكثيرة التي وردت في لسان علماء اللغة والبلاغة والأصول والفقه.

 

 

مفهوم العدول عند المحدثين

أطلق علماء اللسان والمحدثون على مفهوم العدول مصطلحات كثيرة منها: "الانحراف ، والانزياح ، والانحلال ، والانتهاك ، والتجاوز ، والمخالفة ، واللحن وخرق السنن ، والشناعة ، والتحريف ، .... وغير ذلك "

ولعلَّ أبرز هذه المصطلحات الانحراف ، والانزياح ، لذا وصف هذا الأسلوب بأنه (انحراف عن المعيار الموجود أو خروج عن القاعدة اللغوية) . ومصطلح (الانحراف والانزياح) الذي استعمله اللسانيون والمحدثون وتمسك به بعضهم ، أرى أنه لا يمكن أن يشمل كل النصوص فإن جاز لنا اطلاقه على النص الشعري أو الأدبي ، فإنه لا يليق بالنصوص القرآنية المقدسة ، فهو يصف السلوك والمنهج ، وأرى يجب استعمال المصطلح العربي (العدول) وإحياؤه ؛ لأنه يمكن استعماله على كل نص سواء أكان قرآنياً أم شعرياً أم أدبياً ، ولأنه موجود في تراثنا القديم واستعمله كثير من علمائنا فمن الأولى أن نتمسك به .

وقد تكلم العلماءُ المحدثون من لسانيين وأسلوبيين وسياقيين وتحويليين وغيرهم عن (العدول) ووضعوا له معايير وقواعد توافق نظرياتهم ومدارسهم تكمل بعضها بعضها الآخر إلا أنه لا يخرج عما أشار إليه وذكره علماؤنا في اللغة والبلاغة والأصول والتفسير .

لذا يجب التمييز بين أنواع العدول الواردة في الأداء اللغوي للكلام .

النوع الأول : عدول لغوي اضطراري نمطي : وهو ما يقع في أصل الوضع إذ يضطر إليه المتكلم حسب قواعد اللغة فهو عدول في أصل اللغة . ولا يمكن تركه ، من ذلك على سبيل المثال : لا يوجد في الرباعي إلا وزن واحد (فَعْلَلَ) وامتنعوا أن يأتوا به على وزن (فَعلُل) (فُعلًل) ..... ، ومنه أنهم عدلوا (فُعَل) عن (فاعِل) في أحرف محفوظة هي (زُحَل ، عُمَر ، غُدَر ، زُفَر)

النوع الثاني : عدول اختياري فني : وهو العدول الذي يقع لأغراض فنية وبيانية ، وفيه يتم الخروج عن الخط العادي للكلام بمخالفة مثالية للغة وانتهاك قوانينها ، مما يسهم في توليد المعاني المبتكرة ، وهو ما يسمى العدول عن أصل النظام اللغوي .

النوع الثالث : عدول إيقاعي : وهو العدول الذي يقع لأجل مراعاة الإيقاع كالوزن أو القافية أو غير ذلك من ألوان البديع كالسجع وبعض أنواع الجناس والترصيع وغير ذلك، فمراعاة الشاعر للإيقاع هو لغرض تحقيق المطابقة الفنية والغاية الجمالية .

مفهوم العدول الصرفي

يعرف الصرف : بأنه علم بأصول تعرف به أحوال أبنية الكلمة التي ليست بإعراب ولا بناء من أصالة وزيادة وصحة واعلال .... .

ويعرف العدول الصرفي : بأنه ترك الوزن أوالصيغة القياسية لوزن أو صيغة قياسية أخرى لدلالة معنوية لا يحتويها الوزن الأول أو الصيغة الأولى . وقد ذكر ابن جني : ( أنّ كلَّ زيادة في المبنى تؤدي الى زيادة في المعنى) .

لذا فإن العدول في السياق اللغوي يكون غالباً ذا مبررات فنية وغايات جمالية يهدف إليها كالإثارة الذهنية أو التشويق العقلي أو لفت الانتباه أو التأكيد أو ... غير ذلك من الأهداف التي يسعى إليها الكاتب .

ولأنَّ أسلوب القرآن الكريم بَهَرَ أهلَ اللغة وغيرهم الذي تميز بألفاظه المنتقاة بعناية لا تقبل الترادف ولا التغيير من خلا التفنن والتنوع الذي يعطي للمفردة ما لا تعطيه مفردة أخرى بوزن معين من معانٍ ودلالات لا تتأتى إلا من خلال الصيغة التي جاء بها ، لذا سأتناول بيان أثر العدول الصرفي في الأسلوب القرآني وما أضافه من  دلالات أو خصيصة بيانية يحتاجها السياق .

والكلام في هذا الموضوع طويل ويحتاج الى عدة محاضرات لذا سأقتصرعلى بعض الأمثلة والإضاءات التي تبين أثر العدول الصرفي في البيان القرآني :

1)   العدول من صيغة إلى أخرى :

إنّ كلَّ صيغة صرفية – كما هو معروف – معها دلالة لا تحملها صيغة أخرى فمثلاً صيغة (فَعَلَ) التي تدلّ على مجرد الفعل لمّرة ، وصيغة (فَعَّل) تدل على التكثير والتكرير .... .

فمن أمثلة العدول من صيغة إلى أخرى في أسلوب القرآن الكريم، قوله تعالى   ? ?  ? ? ? ? ? ? ? ? ? ??            (الطارق :15 – 17) فوردت صيغة (مَهَلَ) بصيغتين مختلفتين في هذاالسياق فعدل عن صيغة(فَعَّل) المشددة إلى(أفْعَل) .

فسر العدول من صيغة (فَعَّل) الدالة على التكثير والتكرير غالباً ، إلى صيغة (أفْعَل) الدالة على التعدية غالباً ، إنما هو عدول بياني لإضفاء دلالة اضافية على المعنى وليس المخالفة بين الصيغتين لمجرد المخالفة .

فالصيغة الأولى (مَهَّل) المشعرة بطول مدة التمهيل , فيها تسكين وتصبير للرسول (r) ثم أعقبها بالصيغة الثانية (أفْعَل) مقيدة بما يفيد التقليل (رويداً) ليدلّ بذلك على تمهيلهم وإهمال الله تعالى إياهم وأن طال فهو آتٍ لا محالة .وهو قليل في هذه الحياة على ما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة .

ومن الأمثلة الأخرى قوله تعالى  ?? ? ? ?  ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? (آل عمران: ?) وردت لفظة (نَزَلَ) بصيغتين مختلفتين في سياق واحد , إذ جاء بالفعل (نَزّل) المتعلق بالقرآن الكريم لأنه نزل منهجاً ولم ينزل دفعة واحدة في حين عدل عنها في الموضوع الثاني من السياق واستعمل لفظة (أنزل) المتعلق بالتوراة والإنجيل ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة فاختلفت الصيغتان لاختلاف النزول .

ومنه قوله تعالى ?? ? ? ? ?  ? ? ? ? ? (القمر: ??) عدل عن صيغة (فاعِل) الى صيغة (مُفْتَعِل) من افْتَعَل لأنها أبلغ وأضافت دلالات أخرى فصيغة (مقتدر) بينت شدة الأخذ الصادر عن قوة الغضب , كما أفادت بسط القدرة , فالمقتدر أبلغ من القادر .

2)   العدول من المصدر الى اسم المرة

وذلك كما في الأية الكريمة إخباراً عن قوم نوح وتكذيبهم لنبيهم عليه السلام ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?  ? ? ? ? ? ? ? ? ?  ? (الأعراف: ?? - ??) ونلمح العدول في الآية بوضوح في صيغة المصدر (ضلال) إلى صيغة اسم المّرة (ضلالة)

وسرهذا العدول يرجع إلى أنّ الملأ من قوم نوح قد اتهموا نوحاً u بالضلال اتهاماً مؤكداً بـ (إنّ) واللام مبالغاً فيه بادعاء رؤيتهم له (في ضلال مبين) بما يفيده لفظ الرؤية من التثبيت واليقين، ولفظ (في) الظرفية في معنى الانغماس والاحاطة في الضلال، ولفظ (مبين) بصيغة اسم الفاعل الذي يدل على الثبوت الواضح للضلال .فناسب ذلك أن يسلك نوح في نفي هذا الاتهام مسلكاً آكد وأبلغ في اثباته ، فلذا عدل عن صيغة المصدر (ضلال) الى صيغة اسم المرة (ضلالة) ، وأوقعتها نكرة في سياق النفي لإفادة العموم (ليس بي ضلالة) واختار حرف الجر الباء لنفي أدنى ملابسة له بالضلالة ، فكأنه قال : (ليس بي شيء من الضلال) ونفي الأدنى من نفي الأكثر , ولوقوع اسم المرة نكرة في سياق النفي أفاد نفي ،  أي نوع من أنواع الضلالة أو أقل القليل منه .

3)   العدول من الجمع إلى الإفراد :

فمن أمثلة عدول الجمع إلى الإفراد في القرآن الكريم , ورود لفظ (النور) مفرداً في مقابل جمع (الظلمات) في جميع مواضعه في القرآن الكريم حيث ورد في أحد عشر موضعاً , ولم يرد خلاف ذلك مما يمثل نوعاً من العدول، من ذلك قوله تعالى ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ??  ? ? ? ? ? ?  ? ? ? ? (البقرة: ???) ،?? ? ? ? ? ? ? ? ?  ?? (الأنعام: ?) ، ???? ? ? ? ? ? ? ?  ? ? ? (إبراهيم: ?) فورد لفظ (الظلمات) في هذه الآيات بصيغة الجمع ثم عدل عن هذا الجمع بإفراد لفظ (النور) ويعود مجيء (الظلمات) بصيغة الجمع الى اختلاف الضلالات وكثرة اتباع الباطل , أما مجيء لفظ (النور) بصيغة الافراد فيعود إلى أن الأيمان واحد , وقلة اتباع الحق .

لذلك جاءت لفظة (السُبُل) بصيغة الجمع وعدل عنها في سياق الآية نفسها الى صيغة الافراد (سبيل) لتدل كل واحدة على معنى اضافي يوضح المعنى ويقويه ، قال تعالى ?? ? ? ? ? ?? ? ? ?  ? ? ? ?? ? ? ? ?  ? ? (الأنعام: ???) فجاءت لفظة (السبل) في بداية الآية بصيغة الجمع لأنها تدلّ على الباطل والشر ، وللباطل طرق متعددة ومتشعبة ، وفي نهاية الآية عدل عنها الى صيغة الافراد ؛ لأنَّ طريق َالحق واحد ، تناسب ذلك مجيء صيغة الجمع لطرق الشر والباطل ، والعدول عنها الى صيغة الافراد لبيان أنّ طريق الحق واحد .

4)   العدول من جمع الكثرة الى جمع القلة :

من أمثلة ذلك قوله تعالى : ?? ? ? ?  ? ? ? ? ? ? ?  ? ? ? ? ? ? ? ? ?  ? ? ? ? ? ? (النحل: ???)

فعلى الرغم من كثرة نِعَم الله كفرت بها تلك القرية ، فقد عدلت الآية عن التعبير بجمع الكثرة (نِعَم) الى جمع القلة (أنعم) ، وذلك للإيذان بأنّ الكفران بنعمة قليلة أوجب هذا العذاب فما ظنك بالكفران بالنعم الكثيرة وناسب ذلك مقام التخويف لهؤلاء الكافرين فمجيء صيغة جمع القلة (أنعم) أشد مبالغة في التخويف .

5)   العدول من الفعل الى اسم المفعول :

وذلك في قوله تعالى عن نبيه داود عليه السلام ?? ? ? ? ? ? ? ? ? (ص: ?? – ??) حيث عدل مقابلة (يسبحْنَ) فلم يقل (والطير يُحشرن) ، فعدل إلى اسم المفعول (محشورة) فغايرت الآية بين فعل العبد وفعل الرب سبحانه وتعالى فالتسبيح يقع من المخلوقات شيئاً فشيئاً ، أما الحشر فيقع من الله تعالى جملة واحدة وبأمر واحد .

كما أنّ ذلك يدلّ على اجتماع الطير لداود u في وقت واحد ساعة تسبيحه لا أنها تحضر في أثناء تسبيحه شيئاً فشيئاً بل تحضر جملة واحدة من بداية التسبيح إلى منتهاه ، فعدل الى صيغة اسم المفعول (محشورة)

6)   العدول من مصدر الفعل الرباعي الى مصدر الفعل الثلاثي :

وذلك في قوله تعالى ?? ? ? ?  ? ? ? ? ? ??

 (آل عمران: ??) فعدل عن مصدر الفعل الرباعي الى مصدر الفعل الثلاثي في الثناء على مريم في قوله ?  ? ? ? ?  ولم يقل (إنباتاً حسناً ) ؛ وذلك لأن الله تعالى أنبتها كما يشاء ويريد ، فطاوعت أمر ربها وقبلت ولو قال (وأنبتها إنباتاً حسناً) لكان عملية إنباتها كله لله وحده وليس لمريم أيّ فضل فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجمع بين الأمرين أنه تعالى أنبتها كما يشاء وأراد فطاوعت أمر ربها وقبلت فجعل الله سبحانه وتعالى لها فضلاً في هذا ،فقال ?  ? ? ? ?

7)   العدول من صيغة المضارع إلى صيغة الماضي :

في قوله ?? ? ? ? ? ?? ? ? ? ?  ? (النحل: ?) الفعل

 (أتى) يدل بصيغته الصرفية على المضي المطلق في زمن انقضى ، إلا أن وروده في السياق يفرض عليه دلالة سياقية يقتضيها السياق ، ويدلّ عليها وهي دلالة الاستقبال لوجود قرينه لفظية (فلا تستعجلوه) وهذا السياق النحوي التركيبي يشير الى أنه لم يقع بعد .

ولأن (أتى) فعل ماضٍ تدل على وقوع الحدث في الزمن الماضي والشيء لم يحصل بعد ، فإننا لا نُفرّغ هذه الصيغة الصرفية من دلالتها الزمنية ولا نخضعها للدلالة السياقية فقط ، إذ لو كان ذلك هو المراد لجاءت الصيغة بصيغة الاستقبال (سيأتي أمر الله) فعدل الى صيغة الماضي لدلالة اضافية .

وسبب العدول / هو توظيف الصيغة في معنى الاستقبال متضمنة معنى المضي ، فكأن المقصود بأن أمر الله سيأتي لا محالة ، فهو في حكم ما وقع وأتى وسيأتي بالفعل .

 الكلام عن هذا الموضوع طويل وقد ذكرت بعض الأمثلة والاضاءات التي حاولت من خلالها بيان أثر العدول الصرفي في البيان القرآني .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها إنه نعم المولى ونعم النصير .