همسة ندية في يوم الضاد العالمي

همسة ندية في يوم الضاد العالمي
Share |
2023-12-18
همسة ندية في يوم الضاد العالمي

همسة ندية في يوم الضاد العالمي

أ.د. علي حسين خضير الشّمّري

أستاذ اللسانيات التطبيقية

في مركز الدراسات الإستراتيجية - جامعة الأنبار

khudhair.udhair@uoanbar.edu.iq   

         ربما يعتريني الحُبُور والسرور والشّجو والأسى معا في كل اِذِّكار للغتنا يمر عليّ لِما هو واقع بها هذه  اللغة الغرّاء القشيبة الأخّاذة، التي ملأها الله محاسنًا وجمالًا، كيف لا وهي لغة القرآن الكريم خير كتاب أنزل على البشرية جمعاء، لا يعلم قدرها إلّا مَن كان كِلْفًا بها وقاسى سَبْر غَوْر حروفها، فهي آسرة لكل مَن وقع في جواها وشغفها، فهي تكاد أن ترسم بكلماتها صور ما ترويه، فأنفاسها كالمطر تشتاقه الروح، وعذبة كالطفولة، وكالسماء الضحوك، وكتغريد الشحرور الذي يسرق القلوب بأنغامه الشجية العذبة ، ويشهد بعظمتها الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، قال الألماني فريتاغ: "اللغة العربية أغنى لغات العالم"، وقال: وليم ورك: "إن للعربية لينًا ومرونة يمكنانها من التكيف وفقًا لمقتضيات العصر". قال أحمد شوقي:

إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغات مَحاسِنًا                   جعلَ الجمالَ وسرَّهُ في الضادِ

فاللغة العربية هي أسّ في أركان الأمن الثقافي والحضاري والفكري لهذه الأمة في الحاضر والمستقبل، وهي أيضًا القاعدة الوطيدة والراسخة للزعامة الوطنية والقومية والإسلامية، وهي ليست لسانًا فحسب، بل عنوانا لهذه الزعامة التي تتمسّك بها كل الدول العربية الإسلامية.

ولا غرو في ذلك إذ إنّ السِّمة العامة لجميع اللغات أنّها تمر بمراحل الطفولة ثم الريعان ثم الكهولة إلّا لغتنا البهية إذ بدأت على حين غِرّة غاية الكمال، فحَسُنَتْ مستقرًا وقواما، ولعلّ هذا أندر ما حدث في تأريخ اللغات، فلا طفولة ولا شيخوخة، فهي ظِئر رؤوم ولم تكن أمًا سَئوم. وحتى لا ينظر إلى نزعتي هذه نظرة غير رشيدة، أو نظرة تحمل في طياتها اتهامًا بالنقص والتفريق بين القُدُرات الذهنية للبشر؛ لذا رأيت من المناسب أن أتلمس وجه الحكمة ومبعثها في ذلك. ولعل أول ما ينقدح في الذهن أن من أهم المسوغات لهذا الميل هو اعتزاز الإنسان بما يملك، والانتماء الذي يشعره بقوة المقوّمة الشخصية، فضلًا عما يمثل رمزًا لعقيدته الدينية، واللغة معقد ذلك كله، فهي السبيل إلى التفاهم بين الأفراد في نسيج نوعي متجانس، ولولا اللغة لما استطاع الإنسان أن يخترق طوق العزلة والتفرد التي ظل بهما قابعًا فينة من الزمن، وبها استطاع أن يجسِّد إبداعه ويبني صرح حضارته؛ لذا حرص الإنسان على لغته، ومع ذلك تجد مَن تنطّع وتشَدّق وتفيهق وقال: إنّ اللغة العربية لا تستطيع استيعاب ما يستجدّ من حداثة ومخترعات وأنّها ضاقة ذرًعا بوصف ذلك! فهؤلاء لا يترددون في انتهاز السوانح للنيل من لغتنا، كلام يجعلك تتمعّر غضبًا، قطعًا هذا كلامُ مغرضٍ يبتغي الفتنة وفينا سمّاعون له، وقائله ربما تعوّد أنْ يدوف المسك بالعفن، وقولي ليس نابعًا من التهاب وجدان أو عاطفة دين، بل هو الحق، إنّ العاقل يعلم عِلْمَ اليقين أنّ اللغة التي وَسِعَتْ القرآن لفظًا ودلالة ولم تَعْيَ في وصف آي وعِظات قطعًا هي قادرة على استيعاب كل الواقعات إلى قيام الساعة لفظًا وغاية. قال الشاعر على لسان اللغة وهي تقول:  

وَسِــعْــتُ كِــتَـابَ اللـهِ لَـفْـظًـا وَغَـايَـةً             وَمَــا ضِــقْــتُ عَــنْ آيٍ بِــهِ وَعِــظَــاتِ

فَـكَـيْـفَ أَضِـيـقُ الْـيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ                 وَتَــنْــسِــيــقِ أَسْــمَــاءٍ لِــمُـخْـتَـرَعَـاتِ

  وما ينكأ الجرح هو ما تمرّ به اللغة الآن من جفوة أبناء جَلدتها مِمَنْ بَليت حِبالهُمُ التي تربطهم بماضيهم، واسْتَبْهَم عليهم السبيل وَضَلّت خطاهم، فقد أساؤوا القَالةَ فيها فالذي بينهم وبين اللغة الفصيحة بَوْنٌ سحيق لا يستهان به؛ لذا وَسَمُوها "بالمتَمنِّعَة والمُمْتَنِعَة" مع أنّها استطاعت أن تسجّل ثباتًا راسيًا بوصفها معيارًا في الميدان اللغوي واللهجي المتلاطم المضطرب، فضلًا عمّا حققه النصّ القرآني الذي صار مرجعًا في تنميط "اللسان المبين" وهذا ما جعلَ مَنْ أدمَنَ" التّسيّب مذهبًا ويدّعي التحرر مسلكًا" أنْ يغْتَمَّ ويكدر ، والتّبرم والتشكي غالبًا ما يصدر من الذين ذكرت وصفهم آنفًا، وقطعًا أنّ هؤلاء نجدهم ممن أغفلَ إحْكام ضوابط اللغة إبّان تعليمهم في المدارس والجامعات؛ لذا تراه يهرع إلى مثل هذه المناهج التي تدعو إلى التحلل والتحرر من هذه القيود التي يراها مرتقى عويصًا ومتشعب المذاهب، سالكه لا يأمن العثار، وفات هؤلاء أنّ الكتاب والسنة جاءا باللغة العربية؛ فلا يفهمان إلّا على معاييرها وأحكامها، وإنّ تعلم اللغة العربية وفنونها يعدّ من أمور الدِّين، فالمسلم مُلزمٌ بها شرعًا، سواء على الوجوب أو الاستحباب. قال الشَّافعي في كتابه "الرسالة ص:48" وهو من كبارِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ النحارير وَفِرْسَانِهَا: " فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ مَا بَلَغَهُ جَهْدُهُ؛ حَتَّى يَشْهَدَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افتُرِضَ عَلَيهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيرِ ذَلِكَ...".   

لذا علينا أنْ نعضّ على لغتنا بالنواجذ قبل أنْ يدركنا السَّدْمُ والندم ولاتَ حينَ مَنْدَم، فلا نَوْص ولا بَوْص، فهي لغة قلّ نظيرها فهي متصلة من حيث البناء والتأريخ فليس بيننا وبين القدماء لغة تكون وصلًا بيننا وبينهم بل هي نفسها التي كتب بها الشعر الجاهلي، وهي نفسها التي كتب بها النص القرآني الكريم والحديث النبوي الشريف والأصول والفقه وسائر العلوم، ولعلّ هذا ما يثير حنَقَ الناعبين في حياة لغتنا من الغربيين ومَن سار على نهجهم من أبناء جلدتنا. فهذا التأثيل والتّجذّر والاطِّراد لا يرجونه للعربية؛ لأنّها تمثل النمط الأمثل في الاتصال والتواصل بين الأجيال. وهناك كُثُر ممن ينكرون الصلةَ بين العربية والإسلام جملة وتفصيلا، وفات هؤلاء أنّ النصوص الإسلامية كلها كتبت باللغة العربية؛ لذا فإنّ الحاجة إلى العربية لفهم الأسس الإسلامية وثقافتها أسّ، ولا يختلف عاقلان على ذلك. وهذا ما دعا الكثير من المسلمين الذين تعرّبوا إلى حدّ يَبُزّنَ فيه العرب أنفسهم!، حتى صار من ديدن هؤلاء عند دخوله الإسلام الشروع باستبدال اسمه الأعجمي باسم عربي ثم يبادر إلى تعلّم العربية.

وقد وصل الأمر ببعض الحانقين ممن أنكر الربط بين الإسلام واللغة العربية أنْ ادّعوا أنّ الإسلام لا يكون عالميًا إلّا بفصله عن اللغة العربية، وأقول: إنّ مَنْ أراد ذلك فأنه يريد أنْ ينفكَ عن جوهر الدين "إلزامًا والتزامًا" مما سيسقطهم في شناعة وقبح سوء ظنهم الذي أرداهم فأصبحوا من الخاسرين. ختامًا: أسأل الله تعالى التوفيق لكل ساع مجهول يناكف الدمع ويذود عن حياض العربية سرّا واقول لهم: امضوا بثبات نحو اتقان هذه اللغة واستعملوها في كل الصُعُد لرفد الميادين كافّة.  

 

 
عدد المشاهدات : 235