شهر رمضان مِهماز الهِمم لا التَّقاعس والكَسَل

شهر رمضان مِهماز الهِمم لا التَّقاعس والكَسَل
Share |
2024-03-31
شهر رمضان مِهماز الهِمم لا التَّقاعس والكَسَل

شهر رمضان مِهماز الهِمم لا التَّقاعس والكَسَل 

أ.د. علي حسين خضير الشّمّري

أستاذ اللسانيات التطبيقية

في مركز الدراسات الإستراتيجية - جامعة الأنبار

khudhair.udhair@uoanbar.edu.iq   

          لبلوغ المعالي لا بدّ من استصغار ما دونها، فالمراتب تستوجب مبدأ الإرادة وشحذ الهمم، فالأمر يتعلق بتوجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره. فالسّعي إلى بواعث علوّ الهمم يعدّ واجبًا على المرء؛ لأنّ التثبيط والفتور يعدّان مدخلًا مهيعًا للإخفاق والفشل، وغالبًا ما يُتهم شهر رمضان بأنّه مدعاة للكسل والفتور؛ لعدم إدراكهم حكمة الصيام، ولعلّ ذلك نابع من العادات والتقاليد السيئة التي توارثناها ونظن أننا نحسن صنعا، فالسّهر والسّمر فيه حتى الفجر صار من أهم السِّمات التي تجترحها المجتمعات ثم النوم حتى وقت الظهر أو ربما حتى قبيل الإفطار، وبهذا صار رمضان شهر أكل وسمر ونوم، وهذا إفراغ لقيمته، وفات بعضهم أنّ رمضان مدرسة لغرس القيم النبيلة والسامية في نفوس المسلمين ولا سيما الشباب، فضلًا عن تجنيد الطاقات وتجديدها، وتنظيم الإرادات، وتمكين العزائم، وشحذ الهمم. ورمضان نفحة من نفحات الدّهر وقد أكرمنا الله ببلوغه فلابدّ من التعرّض له والتعاطي معه حتى نظفر بالمغفرة والرضا، ودونك أبرز مستحثّات الهمم:

1- تربية الأسرة الصحيحة: تعد الأسرة نواة المجتمع، فهي مجتمع مصغّر، وما يجترحه الفرد منها من قيم وسلوكيات حتمًا ستنعكس على المجتمع العام؛ لذا كان من أرفع وأجلّ مستحثّات الهمم هي التربية الصالحة التي يتلقاها الفرد في أسرته من ترغيب وحضّ على التحلي والاتسام بالخصال الكريمة والخِلال الحميدة، والتَنَكَّب والنأي بالنفس عن المثالب والمقابح والمراذل، ولا ننسى أنّ صلاح الآباء يدرك الأبناء. فالتأريخ زاخرٌ بالآباء الصُلّاح والأمهات الصالحات الذين كانوا بحق مدارس يحتذى بها، والنشء في مثل هذه المجتمعات-بلا شك- سيكون سويًا قويمًا مُكْنَة يعكس همّته إلى مجتمعه؛ لأنّ التأدبّ والتهذّب والتعلّم في الصغر يكون أدْعى للنقش والثبات، قال الشاعر:

                       إِنَّ الغُصون إِذا قَوَّمتَها اِعتَدَلَت                   وَلا يَلينُ إذا قَوَّمتَهُ الخَشب

ومن تربى في كنف أسرة صالحة لا غرو إنْ كانت همته تباري الشّم من الجبال، فمن شبّ على شيء شاب عليه.

2- الاحتذاء والتأسّي بالمُثُل والقدوات المجتمعية: إنّ الائتساء بالخــُلَّص وتحقيق المعيّة مع مَنْ أحرزوا قيمة إنسانية عالية وكان لهم القِدْح المُعَلَّى من المسؤولية سواء أكانوا معلمين أم مربين من حُذّاق وأَلِبَّاء -قطعًا- سيورثون الجيل الخِلال الحميدة التي تُأسِّس في نفوسهم الحِلْم والأناة، مما ينعكس ذلك إيجابًا على المجتمع بعد قيادتهم له، وهاتان الخصلتان يحبهما الله ورسوله، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: "إنّ فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأناة"؛ رواه مسلم. فعُلوّ الهمة دليل على كمال العقل، والنفس النفيسة عالية الهمة.

3-السعي في طلب العلم: ربما يكون في طليعة مستحثّات الهمم وبواعثها، فطلب العلم حفْز لصاحبه لاطلاعه على علوم الأقوام وأخبار الأمم الغابرة، كما يُألِّبه نحو الجلادة ومكابدة المصاعب والمعوقات التي تكون حائلًا دون وصول القمم، فالعُلَى لا تُنال إلا على جسر المشقّة والمعاناة، وانماز طالب العلم في سالف الأزمان بعلوّ همته وصدق نيّته والعمل بما علم؛ لذا قالوا: " العِلمُ والعَمَلُ تَوأمانِ أُمُـّـهما عُلوُّ الهمَّةِ"، وحاله تردد قولَ الشاعر:

همتي همّة الملوك ونفسي       نفسُ حرٍّ تَرى المذلّة كفرًا

4-اهتمام المجتمع بالحاذقين والمبدعين: يستلزم على المجتمعات التي تضم ثُبة من الحُـذّق والنُبَهَاء أنْ يتعهدوهم بالعناية والاهتمام؛ لأنّه الأحوط في الحفاظ على مقومات مواهبهم وترسيخها، فضلًا عن إذكاء روح المنافسة بإقامة النشاطات والفعاليات التي تناسبهم، مما يلهب فيهم روح الإصرار والمساجلة، فيتحقق بذلك الهدف المنشود من هذه الفئة الفاعلة والمؤثّرة في المؤتلفات البشرية. وبخلاف ذلك ينعكس سلبًا كما في بعض المجتمعات التي تَعرّض فيها النوابغ والمبدعون إلى خيبة أمل وإحباط؛ لرؤيتهم أنّ الاهتمام منصبّ على مارخي السِّخاب والتوافِه والطفيليين ممن أبرزتهم مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت منابر لمن يهذر ويتشدق ويتفيهق، من الذين يفتقرون إلى أبسط مقوِّمات الشخصية فضلًا عن الأصالة والإبداع والقيمة؛ وذلك لامتهان المسؤولين في الإدارة وإبطائهم في كبح جماح هذه الشراذم التي صارت أيقونة تثبّط الهمم وتثني العزائم بين أبناء المجتمع. ونحن في هذا الشهر الفضيل يتربّص بنا سرّاق يتعاهدونا دون تفريط، ويسلبوننا الوقت خِلسة دون أدنى شعور؛ لذا علينا تجنبهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وإليكها:

أ- النوم والإسراف فيه: فهو سارق متوارٍ يختلس الساعات الطوال ويغشى المرء دون شعور، فيضّيع الصلوات، ويورث التواكل والفتور ويثبّط الهمم.   

ب-مواقع التواصل الاجتماعي: في ظل ثورة التقنيات وما أحدثته من انتقالات مهولة استطاعت كثير من المجتمعات المتحضرة التقدم على صُعُد مخلفة سواء العلمية أو الاقتصادية أو الاجتماعية؛ بفضل الإدارة البصيرة والدقيقة التي اتبعتها تلك الدول في التعاطي مع هذه الثورة العلمية. ولكن على الجانب الآخر فقد خلّفت لنا هذه الثورة التقنية ولا سيما (وسائط التواصل الاجتماعي) شرذمة من النشء لا تكترث بالزمان ولا المكان، ولا تعبأ بالضوابط الاجتماعية، فضلًا عن الدينية فخرجت لنا تحمل عقلًا يعوم في دهاليز الجهل متخبّطًا، فهم في تأزّم فكري، فهم يناقشون كُناسة الفِكَرِ وأبخسها ويصنعون منها هالة، بناء على تحليلهم الذي يفتقر إلى أبسط المقوّمات العلمية فضلًا عن المعرفية. فهم يعيشون واقعهم الافتراضي وصاروا بعيدين جدا عن الواقع، فهم يحرزون الفشل بسبب الحياة الزائفة التي يعيشونها في عالمهم الزائف الذي يحصلون فيه على سلسلة إعجابات ومديح حتى وإن كان ذلك على حساب عادات كانت محرمة عرفًا قبل أن تحرم شرعًا، ولكنّها استحلت بذريعة تكوين المستقبل وتأمين لقمة العيش، كلها أعذار واهية منكرة.         

ج-السهر: الإفراط بالسهر هو آفة مضرةٌ بالإنسان، فالحرمان من النوم أضرّ من الحرمان من الطعام، فآثاره مهلكة وعواقبه وخيمة، فقد توصلت دراسات طبية حديثة إلى أنّ السهر يؤدي إلى تدمير وتلف في الدماغ طويل الأمد، وصرحت بذلك مجلة "اتجاهات علوم الأعصاب"، فضلًا عن تسببه بتعطيل جهاز المناعة وإضعافه، وأبرز ما يخلّفه السهر على الفرد خلا ما ذكر آنفًا، المزاج السيّئ وسرعة الغضب غير المبرر، حماقة في التصرف وديمومة التوتر، والرغبة الشديدة في الانعزال، ويكون مرهودًا غير حازم في القرارات، تأزم وتفاقم العوامل النفسية.

د-التلفاز: إذ يعدّ من أهم السُبُل التي يرفّه بها الكثيرون عن أنفسهم؛ لأنّ التّنقل بين القنوات الجمّة يحقق لهم سعة في الاختيار والنوع. والحقيقة التي تغيب عن الكثير أنّ هذه الآلة تعدّ من أذكى سرّاق الزمن التي أوجدتها التقنيات الحديثة بعد الجوال، فمن يدمن المشاهدة فإنه يُغيَّب عن الواقع وتفرط منه ساعات دون وعيٍ وإدراك، فأضراره الصحية الجسدية كثيرة والنّفسية أكثر وأشنع. فالحذر الحذر من الانزلاق في هوة الإدمان.   

لذا أقول لك أيها القارئ:" أنتَ في القيمة أسمى من العَالَمَيْن كليهما، فماذا يمكن أن أفعل إذا كنتَ لا تعرفُ قَدرَك؟؟

لا تبعْ نفسك رخيصاً، وأنتَ نفيسٌ جدًا في عيني الحقّ".

 

       

 
عدد المشاهدات : 12