تساؤلات الشعر

تساؤلات الشعر

 

أ.د. جاسم محمد عباس

كلية الآداب قسم اللغة العربية

يتبين أن المجال المعرفي للخطاب هو اللغة في سياقها الاجتماعي والأيديولوجي تلك اللغة التي تتميز بخصائصها النوعية وفي أثرها الفني فتكون قادرة على أداء وظيفتها التأثيرية والإبلاغية معا، إن ما يسهم في بناء تجربة الشاعر  هو أن تخضع في تشكيلها الشعري لفاعلية تجربة ضاجة بالثراء والألم من خلال أحداث مشاركة وجدانية فاعلة بين الشاعر والمتلقي ، ويؤدي الخطاب الشعري المتمحور حول الذات أثراً في بناء تجربة الشاعر.

ومن خلال توظيف آليات النص الإبداعي، وإدراك قيمة التساؤلات في نقل التجربة الإبداعية من السطحية إلى العمق، الأمر الذي يجعل المتلقي يتأمل النص بغية الإمساك بالطرف الغائب، فالنص هو الذي يحدد فاعلية هذا التساؤل وما يحمله من طاقة فاعلة تجذب انتباه المتلقي وتدمجه في العملية التواصلية للخطاب، وما يقوم به من آليات في تشكيل الرؤية وتحديد المنطلقات الأساسية التي تربطه بعالمه يتجسد على أساس من التحول في تشكيل رؤية الواقع الذي ينضوي تحته وهذا الخطاب الجمعي ما نتلمسه في كثير من نماذجه، إن فحص البنى اللسانية لشعره يقوم على إدراك خصوصية اللغة لديه وطرق توظيفها لاكتناه سر الفاعلية الشعرية ، فقد كان للكلمة اثرها الفاعل في تجسيد قصدية المبدع إذ حاول الشاعر أن يستثمر كل طاقات اللغة الإبداعية للتأثير في الآخر عن طريق تعانق النص مع الظاهرة الاسلوبية المتمثلة بالاستفهام الذي يعدُّ من الأساليب المهمة في توليد الدلالة في النص الإبداعي.

 أما الشاعر فقد جمع بين ثقافتين وهما: الفكر الإسلامي المنفتح ، والنظرة التأملية لقضايا الوجود والكون، إن السؤال لدى الشعراء جسد لنا لحظتين أحداهما متوافقة مع المكبوت، والاخرى تمثل المنسي والملغى، في الوقت نفسه الذي هو مترسخ في التسمية، تسمية الحقيقة أو تسمية الغياب، ويكفي الفعل الشعري بذلك عن أن يكون إنشاداً وخطابة يسعيان إلى إعادة إنتاج بنية ثقافية سائدة، لها بعدها الاجتماعي والسياسي فهو حمل الهمَّ العربي وشغل فكره تناقضات المجتمع، وهنا يفترق الشعر وتعلن الحداثة الشعرية عن حدودها من غير مواربة أو تخاذل.

 

       والتساؤل الابداعي في الشعر يعبّر عن الدهشة والقلق إزاء كل موجودات الحياة عند الشاعر، إن السؤال هو متنفس الشاعر الذي يجد به مساحة للتعبير عمّا يعتريه من تناقضات الحياة المختلفة، ليبصر من خلالها ومحاولة لإزاحة الظلال الكثيفة التي تلفّ الاشياء والاحداث مكرسة إحساسه بالعزلة والاغتراب، فاقتران التساؤل بالشعر هو أحد صوره الدلالية والفكرية والفلسفية ، فمنذ بدأ الشعر بدأ التساؤل يباغت المتلقي والقصيدة وحتى الشاعر نفسه.

وإن التساؤل- في النص الشعري- هو منظومة إبداعية لتحفيز التلقي النصي، وإثراء المتخيل الشعري، وإثراء الناتج الدلالي، وعليه لم تكن عملية الوقوف عند مفهوم التساؤل الشعري عبارة عن حصر للمثيرات الأسلوبية فحسب ، بل هي طاقة فاعلة قادرة على تكوين شعرية للتساؤل ، ولهذا برز السؤال فاعلا وقادراً على محاكاة الحدث حين يكون شعرياً عندما يحول النسق الشعري إلى كينونة متفاعلة من الرؤى والدلالات المفتوحة، وبقدر ما يولد السؤال رؤيا جديدة، ويرفع وتيرة الحراك الدلالي والبث الشعوري بغية إنتاج الشعرية والارتقاء بها ضمن النسق، وتكمن مهارة الشاعر، وتسمو درجة شعريته بمقدار فاعلية تلك التساؤلات جراءةً وعمقاً، لتصبح علامة منمازة من علامات أسلوبية القصيدة ، فالشاعر لا يكون شاعرا باللغة فحسب ؛ بل بالمتخيلات العميقة والفضاءات القادرة على منح المتلقي فرصة التحليق بعالم لا ينتمي إليه، ومن خلالها تلك التوهجات يصنع ألق الرؤية .