من هنا وهناك أيضا

 

من هنا وهناك أيضا

د. حسين عبد علي

قسم الاجتماع

        يميز الفيلسوف اليوناني افلاطون بين عالمين: عالم المادة وعالم المثل. ويصف العالم الاول ، عالم الحياة التي نعيشها ، بأنه عالم حسي غير حقيقي فهو عرضة للفساد والتحلل ، ويسخن ويبرد الخ... لذلك هو عالم تمدد وصورة غير متكاملة عن العالم الحقيقي ولا ثبات فيه على العكس من عالم المثل الذي يمثل العالم الحقيقي الذي يمتلك الكمال والذي يخلوا من الفساد والتغيير . هذا هو عالم التأمل والعقل ، اذ يصل اليه الانسان عبر التفكير العقلاني السليم وهو جوهر حقائق الاشياء. انه على النقيض من العالم الحسي عالم التبدد والانهيارات، عالم الادراك الحسي. لكن افلاطون يؤكد على اهمية العالم الحسي على أنه يمثل المادة الاولية التي يكتمل من خلالها الوجود فوجود المادة بذاتها لا قيمة له بل ما يعطيها قيمتها هو الفكر أو الافكار. مثال ذلك حينما يريد النحات أن يعمل منحوتة لرجل من الرخام ، الرخام لوحده لا قيمة له ولن يتحول لمنحوتة لولا فكرة النحات بتحويل الرخام الى منحوتة.  

        يمكننا أن نرى أن افلاطون كيف كان معادياً للعالم الحسي لأنه مجرد مظهر أو شكل ، أو نسخة عن الحقيقة. أو  أنه مادة أولية لا قيمة لها بدون الفكر. وبعد كل هذا هناك الكثير من الآراء المختلفة المناقضة لنظرية افلاطون والتي شكلت اسس الفلسفة منطلقة من ما بعد الميتافيزيقا وصولاً الى ما بعد الحداثة وظهور فلسفة الاختلاف والمفارق، والشفرات، والتقنية ودورها في خلق وعي جديد عن ابعاد الوجود المختلفة. فالتقنية ابرزت الى سطح الفكر ابعاد مختلفة من الوجود، وهذا الوجود يمكننا الى اضافته الى عالمي افلاطون يمكننا ( الوجود هناك ) عبر التقنية ( المايك ، الكامرة) عبر وسائل التواصل الجديدة التي فرضتها علينا التقنية اصبح لنا عالماً ثالثاً بمثابة نسخة النسخة يسمى العالم (الافتراضي)، وهذا العالم وفق رؤيتنا أنه يعيد الى عالمنا مركزيته من خلال دحض فكرة عالم المثل الافلاطوني. فالتقنية هي نتيجة الفكر والتأمل، والانسان هو مادتها الاساسية لأنها ممارسة عقلية تأملية كبيرة انتجها الانسان منذ اختراع المطرقة الى ما وصلت اليه التقنية اليوم. وهذه هي التجربة العلمية فهي بدأت كتأملات وممارسة عقلانية في معالجة الموجودات الاساسية المرافقة لوجودنا (المحسوسات التي تفرض نفسها علينا وتشاركنا حياتنا).

        ان وجودنا الثالث الكامن في التقنية يثبت أننا يمكننا أن نكون هنا وأيضاً هناك عبر تلك الوسائل والسبل المتاحة من قبل التقنية. يمكنني أن أكون هنا وموجود هناك عند من اقوم بالاتصال عليه. فهو يراني ويسمع صوتي أي انني اصبحت من المحسوسات رغم بعدي عنه، ورغم كل ما تفصلنا من مسافات . فأنا بمجرد استخدام التقنية هنا وهناك أيضاً، صورة حقيقية لوجودي.