نواب الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم)على المدينة المنورة، دراسة في أسس الاختيار ومعاييره

نواب الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم)على المدينة المنورة، دراسة في أسس الاختيار ومعاييره

    نواب الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم)على المدينة المنورة، دراسة في أسس الاختيار ومعاييره

أ.م.د علاء مطر تايه  ـــــ كلية الآداب ــــ قسم التاريخ 

     بعد هجرة الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) من مكة الى المدينة المنورة وتأسيس دولته الجديدة هناك ووضع أركانها، نزلت آية الإذن للمسلمين في قتال عدوهم الأول، مشركي مكة الذين أخرجوهم من ديارهم من غير حق الا أن قالوا ربنا الله، كما سُمح للمسلمين أن يقاتلوا كل من يدس الدسائس ويحيك المؤامرات من عرب شبه الجزيرة العربية ويهودها.

    فبدأ المسلمون بقيادة الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) بتأسيس أول نواة للجيش العربي الاسلامي تحت إدارة دولة المدينة المنورة. إذ أخذ الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) يبث سراياه ويقود غزواته ضد كل من عادى دينه ودولته الفتية من مشركي عرب وكفار عجم.

    بلغ تعداد الغزوات التي قادها الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) بنفسه حوالي 27 غزوة، منها غزوات خرج بها يعترض عيرا لقريش خرجت للتجارة في الشام ومنها غزوات قادها لمواجهة جيش المشركين، ومنها غزوات خرج بها لتأديب القبائل العربية التي كانت تحيط دولة المدينة المنورة، مثل غزوة بني المصطلق سنة(6ه/628م)، ومنها غزوات داخلية قادها ضد من غدر وخان الدولة من يهود الداخل مثل يهود بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة الذين ما ان وجدوا فرصة للغدر والخيانة هرعوا الى تنفيذها حقداً وحسدً من عند انفسهم. كذلك غزواته على يهود الخارج مثل يهود خيبر سنة(7ه/629م)، ثم غزواته التي بلغت حدود دولة الروم البيزنطية كغزوة تبوك سنة(9ه/631م).

   كان الرسول(صلى الله عليه وسلم)حريص على ادارة دولة المدينة المنورة وتسيير أمورها الداخلية، ورعاية مصالح الناس الذين كانوا يعيشون داخل حدودها، لذلك انه لم يترك مكانه شاغراً أثناء خروجه لهذه الغزوات، فكان غالباً ما يختار من ينوب عنه على إدارة شؤون الدولة والنظر في مصالح الناس وكذلك مسؤولية حماية أمنها الداخلي، فضلا عن مهمة إمامة المسلمين في الصلاة. فمن خلال الاستقراء والنظر في أسماء هؤلاء النواب الذين اختارهم الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم)في كتب السير والمغازي، تبين لنا انه لم يكن هناك أي قيد أو شرط ثابت يعتمده في قضية الاختيار حول الشروط التي تتعلق بصلة القرابة من بيته أو شرط من المسلمين والمهاجرين الأوائل أو أن يكون ذو نسب عربي قرشي، وإنما كان شرطه الأساس الذي كان يعتمده في الاختيار هو الاسلام والايمان، وهذا يعني أن مؤهلات هذه النيابة متاحة لجميع مسلمي ومؤمني دولة المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار الذين امتازوا بحسن الاسلام وقوة الايمان وصدق العقيدة وصون الأمانة، فضلاً عن العلم وخبرة الادارة وفصاحة اللسان. فجميع من يمتلك هذه الصفات هو المؤهل أن يكون الحاكم لدولة المدينة المنورة في غياب الرسول(صلى الله عليه وسلم).

    لما خرج الرسول(صلى الله عليه وسلم) في أولى غزواته الى ودان(الأبواء) يعترض عيراُ لقريش نهاية سنة(1ه/622م) لم يستخلف على المدينة من هو قرشي أو من آل بيته الطاهرين أو حتى من المسلمين الأوائل الذين آمنوا بدعوته منذ بداية نزولها في مكة المكرمة أيام الدعوة السرية، بل اختار من ينوب عنه من زعامات يثرب القديمة وسيد من سادات الخزرج الذين أسلموا قبيل هجرته(صلى الله عليه وسلم) وهو سعد بن عبادة الانصاري(رضي الله عنه). ويبدو أن الرسالة التي أراد بها الرسول(صلى الله عليه وسلم) في تعين ابن عبادة ممثلاً عنه في أول غزواته هي أن الجميع شركاء في إدارة وحكم الوطن الجديد وانه لا فرق ولا تمايز بين مهاجر وانصاري في ادارته وهي اشارة واضحة أيضاً للمهاجرين الأوائل من قريش بأن للأنصار دور في ادارة البلاد في المستقبل.

    ومن الجدير بالذكر ان الرسول(صلى الله عليه وسلم) لم يعتمد على أسس ومعايير واحدة في اختيار من كان ينوب عنه على المدينة، فتارة يختار من له مكانة اجتماعية وقوة بين قومه وعشيرته، وتارة يختار من لم تتوفر له هذه المكانة القبلية المعيار القديم، بل المكانة الدينية، المعيار الجديد، فيذكر أنه لما خرج في غزوة سفوان أو بدر الصغرى في شهر ربيع الاول سنة(2ه/623م)، استخلف على دولة المدينة المنورة أحد أشهر مواليه، زيد بن حارثة بن شراحيل(رضي الله عنه). وواضح أنه(صلى الله عليه وسلم) كان يريد أن يوصل رسالة الى الزعامات القديمة مفادها أن الاسلام جاء بنظام جديد تنصهر أمامه جميع الاعتبارات القبلية التي كانت سائدة في النظام السابق، وأصبح المعيار لمكانة الرجل في العهد الجديد هي دينه وعقيدته وقربه من الله، فضلا شجاعته وحنكته الادارية والسياسية، ولكنه لابأس أن يكون الرجل ذا وجاهة قبلية مع الروح الإيمانية.

    ويبدو أن الاعاقة الصحية أحياناً لا تشكل عائقاُ كبيراً أمام المعايير والأسس الجديدة، مادام المعيار الأساس، الاسلام والايمان موجود ومعه رجاحة العقل وفقه النظر في أمور الرعية،  فهذا عبدالله بن أم مكتوم، الزاهد(رضي الله عنه) ، رغم إصابته بالعمى الا أن الرسول(صلى الله عليه وسلم)، استخلفه على المدينة حوالي ثلاث عشرة مرة، منها غزوة السويق في نهاية سنة(2ه/624م) وغزوتي أحد وحمراء الأسد سنة(3ه/625م) وذات الرقاع سنة(4ه/626م) وغزوة الغابة سنة(6ه/628م) التي تولى فيها سعد بن عبادة(رضي الله عنه) حماية المدينة بثلاثمائة فارس من قومه لحين عودة الرسول(صلى الله عليه وسلم). وكذلك استخلافه في غزوة الحديبية سنة (6ه/628م).