أ.د. طه شداد حمد

أ.د. طه شداد حمد

عُلومُ الآلةِ فِي العربيةِ وفاعليتُها فِي الـتَّماسكِ النَّصيّ

أ.د. طه شداد حمد - جامعة الأنبار – كلية الآداب – قسم اللغة العربية

الحمدُ للهِ ربَّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التسليم، على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبهِ أجمعين. أمَّا بعد:

فعلوم الآلة في اللغة العربية تنحصر على المشهور المتعارف في اثني عشرَ علمًا، جُمعت في قول حسن العطار في حاشيته على شرح الأزهرية (ص9):

نحوٌ وصرفٌ عروضٌ بعدَه لغةٌ ... ثمَّ اشتقاقٌ وقرضُ الشِّعرِ إنشاءُ

كذا المعاني بيانٌ خطّ قافيةٍ ... تاريخُ هذا لعلم العرب إحصاءُ

وحصرها الإثيوبي في كتابه التحفة المرضية (ص157) في أربعةٍ، بقوله:

نحـوٌ وصــرفٌ واشتـقـاقٌ ولـغــه ... هـذي الأساسُ فاجتـهدْ أنْ تبلُغَـه

والجدير بالذكر أنَّ هذه العلوم تقابل فروعَ علم اللغة بالمعنى الحديث وتزيد على الأخير، فهي ماتعةٌ مانعةٌ جامعةٌ بين القديم والحديث، ومنها يُتوصَّلُ إلى علوم الغاية، لكنَّ ثمَّةَ تسمياتٍ متغايرةَ الألفاظ تهدفُ إلى قصديةٍ واحدةٍ، طُوِّرت دلاليًّا على وفق الهدف المنشود، والأفضليةُ للسابق ولا يُنكَرُ جهدُ اللاحق، فمثلًا: الخط ليس المقصود بالخط في البيتين فنّ الخط، بمعنى تحسين الكتابة وتجويده من رسم وإملاء، بل إنَّ الاثنين يمثلان نقطةً جليليةً من نقاط القضايا الصوتية في عرفنا العلميِّ الحاضر، وكذلك المحاضرة، ومعناها أن يستعمل المتكلمُ الكلامَ البليغَ ضمن المحلِّ المناسب وتحقيق الهدف، ومنه التاريخ والسير وغيرهما، والاشتقاق هو الذي يدرس أصول الكلمات وفروعها وربط الفروع بالأصول.

والمتطلع في كتب المتقدمين يجد أنَّ كثيرًا من علمائنا قد أشاروا إلى التماسك في النصوص وبحثوا في متعلقاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن جميل ما ذكره الجاحظ (ت 255هـ) بقوله « وأجودُ الشعرِ ما رأيته متلاحمَ الأجزاء سهلَ المخارج، فيعلم بذلك أنَّه أُفرغَ إفراغًا جيدًا وسُبكَ سَبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدّهان» البيان والتبيين: 1/67، وكذلك الجرجاني (ت 471هـ) بقوله « واعلم أنّك إذا رجعتَ إلى نفسِك عَلمتَ علماً لا يعترضُه الشكُّ أنْ لا نظمَ في الكَلمِ ولا ترتيبَ حتى يُعَلَّقَ بعضُها ببعضٍ ويُبْنَى بعضُها على بَعض وتُجْعَلَ هذه بسببٍ من تلك، هذا ما لا يجهلُهُ عاقلٌ ولا يخفى على أحدٍ منَ النّاس» دلائل الاعجاز: 55، فقولُ بشارِ بنِ برد مثلًا:

كأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رُؤوسِنا ... وأسيْافَنَا لَيْلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ

فهل يتصورُ أن يكون بشارٌ قد أخطرَ معاني هذه الكَلِمِ بباله أفراداً عاريةً من معاني النحو التي تراها فيها ... وفي (وَأسيْافَنَا) من دون أن يكونَ أرادَ عطفَها بالواو على (مُثار)، فالمفهوم من الجميع مفهومٌ واحد، والبيتُ من أوَّله إلى آخره كلامٌ واحدٌ، ألم تكن هذه التراكيب الدلالية المقصدية قد أعطت تماسكًا نصيًّا أظهرت فاعليةً لدى المتلقي؟

وإذا ما انتقلنا الى النَّص القرآني البديع، فإنَّنا نجد كلامًا لا يدانيه كلام، جاء بلغة العرب وأظهر إعجازًا فاق لغتهم، فالقرآن الكريم يشكِّل وحدةً موضوعيةً فنيةً متكاملةً متماسكةً من جميع الجهات، فمن ذلك قوله تعالى من سورة الأعراف: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)).

فالقرآن الكريم فيه قضايا تقودنا إلى برهنة التماسك النَّصي ومدى فاعليته تُجاه المتلقي، وفي أثناء مطالعتنا لكتب علوم الآلة للنصِّ القرآني أعلاه، نودُّ الإشارة إلى نزرٍ من محاور التماسك والفاعلية، فالوسيط الحرفي (الواو) في مطلع الآية الكريمة (واتلُ) عاطفة الموقع رابطة الفكرة محدثة تماسكًا نصيًّا بينها وبين ما سبقتها وما تلتها من آيات فضليات، إذ بدأ الخطاب القرآني بفعل الأمر (اتلُ)، وهو قولٌ يُنبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، والأمرُ عند العرب ما إذا لم يفعلْه المأمور به سُمّيَ المأمور به عاصيًا، وصيغته موضوعةٌ لطلب الفعل استعلاءً لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك، ويرى الناظرُ في شبهِ الجملةِ (عليهم) أنَّها متكونةٌ من حرف الجر (على) الدال على الاستعلاء المفيد في مواضعَ كثيرةٍ العمومَ، والمدمج بالضمير (هم) الجمعي المختوم بميم الإقفال الصوتي التي تقتضي تنفيذ الأمر مع شمولية الخطاب، والملاحظ أنَّ ضَمِيرَ (عَلَيْهِمْ) أحدث ترابطًا في الإشارة القصدية كونه رَاجِعًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَتْ إِلَيْهِمُ الْعِبَرُ وَالْمَوَاعِظُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فهو مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، والاسم المنصوب (نبأ) وإيثاره على (خبر) من جهة عظم الخبر وأهمية الموقف، وفيه إيماءٌ الى انتباه المتلقي من دون استخفاف أو رويَّة، تماشيًا مع (الذي) وهو اسمٌ موصولٌ فرديّ مذكرُ التأصيلِ مخصَّصُ الخطابِ، دالٌّ على خطابٍ موحَّدٍ لا يلتبس المتلقي من معرفته، والابهام فيه جبلَّةٌ نحويةٌ ومعنويةٌ وضَّحتها جملةُ صلةِ الموصول (آتيناه) الفعلية، التي بطبيعتها حوت استعارة بلاغية قصدها الاطلاع والتيسير، فلا محلَّ لها من الاعراب، لكنَّ محلَّها المعنوي بات مهمًّا، ولا سيَّما إذا ما قيِّد بـ (آياتنا) المختوم لفظها بـ (نا) العظمة التي تعود دلالتها على الذات الالهية المبجَّلة، ولا يخفى لمتأمِّلٍ أنَّ تتابعَ وجود الفاء العاطفة كونها رابطًا مهمًّا يساعدنا على هيمنة النَّص وتتابعِ الفكرة، إذا ما علمنا أنَّ هناك فعلَ الانسلاخِ الدَّال عند العرب على إخراج الشيء عن جلده ثمَّ يُحْمَل عليه، فهو يقال على كلِّ مَن فارقَ الشيءَ بالكلية، بعد ذلك حصلت العاقبة بقوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وبنيةُ (الغاوين) استعملت صرفيًّا على سبيل المبالغة في الضَّلال، وقد رُتِّبَتْ أَفْعَالُ الِانْسِلَاخِ وَالِاتِّبَاعِ وَالْكَوْنِ مِنَ الْغَاوِينَ بِفَاءِ الْعَطْفِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ؛ ممَّا ساعدت على فاعلية التماسك النَّصي ضمن محور النَّص الكريم، والملاحظ في تشبيه مَن آثر الدنيا على الله والدار الآخرة مع توافر علمه بأنَّ الكلبَ في حال لهثه سرٌّ بديع، إذ إنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْمَثَلِ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ مَأْلُوفٌ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ، وهَذَا التَّمْثِيلُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، فَهو تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ مُرَكَّبٌ مُنْتَزَعَةٌ فِيهِ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَالْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مِنْ مُتَعَدِّدٍ، فهو ميتُ الفؤادِ، ولهفُه نظيرُ لهفِ الكلبِ الدائمِ في حال إزعاجِه وتركِهِ، فيقال معجميًّا: لَهَثَ يَلْهَث بفتح العين في الماضي والمضارع لَهثــًا ولُهْثــــًا بفتح اللام وضمها، وهو خروجُ لسانِه في حال راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان فلا يَلْهَثُ إلا إذا أعيا أو عطش، والذي يَظْهر أن هذه الجملةَ الشرطيَة لا محلَّ لها من الإِعراب؛ لأنها مفسِّرة للمثَل المذكور، وعند انتقالتنا إلى (لو) الشرطية غير الجازمة فنجد أنَّها تدلُّ على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، مسبوقة بالواو في كلام عطفٍ مسوقٍ لبيان ما ذُكر آنفًا، متبوعة بالاستدراك الموضِّح لوقوع الانعكاس، والْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَلَبِّسِ بِالنَّقَائِصِ وَالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، بِحَالِ مَنْ كَانَ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ فَنَزَلَ مِنِ اعْتِلَاءٍ إِلَى أَسْفَلَ، أمَّا اسم الاشارة (ذلك) فإنَّه يتكوَّن من ثلاثة مقاطع: ذا اسم اشارة ، واللام للبعد، والكاف للخطاب، فبيَّن تحقيق الهدف ومراعاة المشهد، ويتضح الأمر بصورة جمالية أكثر بوجود الإدغام المتجانسين (يَلْهَثْ ذَلِكَ)؛ لاتحاد المخرج في الحروف اللثوية بين (الثاء والذال)، وهو إدغام كامل؛ لذهاب الحرف الأول وتشديد الحرف الثاني، أما إذا تمَّ الوقف على الكلمة الأولى (يَلهثْ) فرضًا، فيكون الوقوف على ثاء ساكنة، ولا سيَّما أنَّ الإدغامَ حلقةُ وصلٍ في إحداث التماسك النَّصي في المشهد القرآني الكريم، وفي التذييل البلاغي بالفاصلة القرآنية المشوبة بدءًا بفعل الأمر (فاقصص)، والْقَافُ وَالصَّادُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى تَتَبُّعِ الشَّيْءِ، والمـتوأمة بمطلع الآية السابقة لها (واتل)، بغيةَ الاتعاظ والطمع في الرِّجوع إلى ربِّ العباد، وفي هذا دليلٌ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ ضَربِ الْأَمْثَالِ وحبكته فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ، وَكَوْنِهِ أَقْوَى مِنْ سُوقِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ في كثيرٍ من المواقف والأزمان. ممَّا سبق من كلامٍ موجز بحسب طبيعة المقال يشكِّل للقارئين دعوةً هدفُها تذوقُ لغةِ العربِ وصولًا إلى تذوقِ لغةِ القرآنِ الكريم من جهة الفاعلية المؤصَّلة بتماسكِ النصوص والهادفة إلى أفقِ المخاطب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِ المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.