أ.م.د. أبو الهيجاء محمد رافع العاني

أ.م.د. أبو الهيجاء محمد رافع العاني

محاولة في تشريح الزمن من مجهر الحضارة

                                                        أ.م.د. أبو الهيجاء محمد رافع العاني

                                                                                                                         أستاذ فلسفة التأريخ المساعد

                                جامعة الأنبار/ كلية الآداب/ قسم التاريخ

   الأزمنة ثلاثة، وهي تعود سلاليا إلى التاريخ، الذي هو ابن للصيرورة، وواحدها زمان وزمن، فهي إما ماض أو حاضر أو مستقبل. وعلى الرغم من كون الزمن يقع ضمن مدارات ثابتة لا تقبل الخطأ إلا قليلا والمعني هنا هي العلوم الصرفة كالفيزياء والرياضيات والتي أخذت على عاتقها مهمة فلسفة الزمن، فصاغت له التعريف وحددت له المدى، إبعادا له عن التلوث بمقاييس الإنسان النسبية التي لا تلبث أن تقف قليلا ثم تتحرك كريشة في مهب عواصف التاريخ؛ وعلى الرغم من تلك الحصانة التي منحتها تلكم العلوم للزمن، فهي لم تفلح في جعله يتخلص من شحنات الأنسنة، ولم تفلح كذلك في جعله يتخذ بعدا رؤيويا لذاته وللإنسان في عين الوقت، ومن هنا تعلقت بالزمن رؤى بشرية قامت على حساباتها حضارات شكلت جزء كبيرا من وجه البشر، كما قامت على حساباتها أيضا مقاييس لا زال البشر يقيسون الفعل الذي أثر كثيرا في إحداث إنتقالاتهم الكثيرة والكبيرة مما كانوا فيه إلى ما كان ينبغي عليهم أن يكونوه أو أن يكونوا فيه...

  ومن هنا تم شحن الزمن بحالاته الثلاثة بشحنات معينة من شأنها أن توقف أمما وشعوبا عن فعلهم المناط بهم على هذه الأرض وهو فعل الخلافة واستعمار الارض، وكذلك من شأنها أن تمنح أمما وشعوبا أخرى الطاقة الكافية واللازمة لديمومة الفعل الذي من شأنه أن يحدث الإنتقالة التي يراد منها الاقتراب من الهدف التاريخي وتسجيل الفوز العظيم لفريق البشرية على فريق الطبيعة. فتم شحن الماضي بشحنات الفقدان الممزوجة على نحو مقنن لدى الأمم الفاعلة بشحنات الحنين، فكان الماضي مفقودا، وكذلك تم شحن الحاضر بشحنات الترقب، فكان مشهودا، وشُحن المستقبل بشحنات هي الأقوى وهي الأمل فكان مستقبلا منشودا.

   وتبعا لهذه الرؤى، ووفقا للتقنين المتبع لهذه الشحنات يتم التأكد من الهوية ومدى تحققها الناجز، وتقدير المدى لتحققها النهائي،  وعلى هذه الأسس تقف الأمم المتقدمة الفاعلة الحية على ارض الواقع الحاضر الناجز المشهود وهي تنظر مشحونة بالأمل نحو المستقبل المنشود، ولم يعد الماضي إلا مفقودا حقيقيا لا دور له إلا في توظيف تراكماته الهائلة وتحويلها إلى مصادر للطاقة، وشيئا فشيئا فقد ذلك الماضي شحنات الحنين؛ بينما تقف الأمم المنفعلة على أرض حاضر غريب عنها ومغتربة عنه كونه ليس من صنعها أصالة، وإنما هو في أحسن الأحوال من تجميعها، تقف وقوفا حرجا خائفا من المجهول الكامن في الآتي، لأنها تعرف أنه حتفها وضياعها الأبدي، لتشرب كؤوس الحنين للماضي التليد كاسا بعد الآخر حتى إذا ما أسكرها الحنين، فإن عربات القطار التاريخي قد مرت من عندها وغادرتها نحو الآتي ونحو المنشود.

   ومن هنا يتبين وجه آخر للصراع بين الحضارات في مضمار الأزمان الثلاثة، وتتكشف الجدلية لهذا الصراع عن طرفين كان يمكن لكليهما أن يخرجا متقاسمين المرتبة الأولى، متمثلة في السيادة والفروسية وتحقيق الهدف، لولا أن الطرف الذي ننتمي نحن له قد ولد خديجا معتلا وعاش مدللا، وتعلم تلقينا لا إبداعا، فعاش مستكينا قانعا بالحاضر مستمتعا نشوانا ببطولات الأسلاف ومفاخر الأجداد، حتى حنينه نفسه كان ضبابيا ضائعا فيروزيا ( مبيعرف لمين).