د. حارث ياسين شكر

د. حارث ياسين شكر

التجربة الشعرية والإبداع... ما قبل التفريغ ما بعد التعبئة

    د. حارث ياسين شكر

جامعة الانبار – كلية الآداب

يقول روبن كولنجوود، الذي استعرت مصطلحيْهِ (التفريغ والتعبئة) في عَنْوَنَةِ هذا المقال: "وكلُّ انفعالٍ، إذا نُظِرَ إليه من الناحية الديناميكية، يمرُّ بمرحلتين: مرحلة التعبئة أو الاستثارة، ومرحلة التفريغ"(كولنجوود، مبادئ الفن: 146). فالمرحلة الأولى تشير إلى التجربة، أي مرحلة ما قبل الخلق، أمَّا الثانية فتشير إلى مرحلة ما بعد الخلق، أي مرحلة الإشراق، التي تتضمن إعادة تشكيل التجربة في عوالم جديدة. أو بمعنى أدق: بداية التحرُّك والانتقال من مستوى (الرؤية) إلى مستوى (الرؤيا) ، انطلاقًا من آليات التفكير والتحليل والتعبير التي تتوسَّط هاتين المرحلتين. وهكذا هو، بالضبط، عالمُ الشعرِ: إنه مكرَّرٌ للتجربةِ، أي الموضوعِ، ومواد أخرى. أو بمعنى أدق هو: التجربةُ في حضورِها الإستطيقي الجديد.

لقد فُسِّرت العمليةُ الإبداعيةُ تفسيرات عديدة اختلفت باختلافِ المدارسِ الفكريَّةِ ومنطلقاتِها النظريَّةِ، فمِنْ قائلٍ إنها وساوسٌ شيطانيةٌ خالصةٌ، ومِنْ قائلٍ إنها موهبةٌ ربانيةٌ خاصةٌ بأناسٍ معينين. كما فُسِّرت تفسيرات نفسية صوَّرت الفنانَ بصورةِ الشخصيةِ الشاذَّةِ. فيما تنطلقُ التفسيراتُ الاجتماعيةُ من استلهامِ الدورِ الحقيقيِّ الذي يضطلعُ به المجتمعُ في عمليةِ الإبداعِ الفني؛ فالفنانَ ليسَ مخلوقًا إلهيًّا قد هبطَ من السماءِ، بل هو مخلوقٌ أرضيٌّ يعيشُ في بيئةٍ جماليةٍ ذات صبغةٍ اجتماعيةٍ، ويستجيبُ لطائفةٍ من المنبِّهاتِ الفنيَّةِ المعيَّنةِ، ويتأثرُ بمجموعةٍ من التيَّاراتِ الجماليةِ السائدةِ، بحيث لو تغيرتْ بيئتُه الاجتماعية لترتَّبَ على هذا التغيير انقلاب في عملهِ الإبداعي الفنيِّ(زكريا إبراهيم، مشكلة الفن: 116-121). كما فُسِّرت العملية الإبداعية تفسيرات عقلية ذهبت إلى أنَّ "العملَ الإبداعيَّ عملٌ بارعٌ واعٍ يتحقَّقُ من خلال إنسانٍ امتلكَ زمامَ نفسهِ وإرادتهِ" (مصطفى عبده، فلسفة الجمال: 52).

وتأسيسًا على هذا الفهم عُرِّفت التجربةُ بأنها: مظهرٌ نفسيٌّ داخليٌّ يتضمن اللحظات والآليات والديناميات النفسية بدءًا من ولادة المشكلة وانتهاءً بتحقيق النتاج الإبداعي" (روشكا، الإبداع العام والخاص: 31). كما عُرِّفت بأنها: "نزعةٌ أو مجموعةٌ من النزعات تسعى إلى أن تعودَ إلى حالة الهدوء والسكون بعد الذبذبة" (ريتشاردز، العلم والشعر: 373).

أمام هذا التنوع نرى أنَّ من أفضل الطرق التي تُقدَّم بها التجربة الشعرية، هو تقديمها من خلال مراكز عملها التي تُبرزها إلى الوجود، وهو ما أشار له الناقد محمد عبد المطلب وصاغه صياغةً دقيقةً في نقاطٍ ثلاثٍ:

المركز الأول: منطقة الخارج بكلِّ مكوناتها الواقعية والخيالية.

المركز الثاني: منطقة الداخل، وهي تمثل منطقة جذب للمركز الأول، حيث يتحقَّق منهما معًا نوع من التفاعل النفسي والذهني، وهو تفاعل غير متوازن تكون الغلبة فيه للمنطقة الداخلية التي تعيد تشكيل الخارج ليتوافق معها.

المركز الثالث: يتمثل في ارتداد المنطقتين السابقتين معًا إلى الخارج مرة أخرى في تشكيلٍ صياغيٍّ له مواصفاته الجمالية المفارقة للصياغة المألوفة أو الإخبارية (محمد عبد المطلب، مصادر انتاج الشعرية: 52).

ويُمثِّل هذا المركز الثالث المرحلة الأخيرة للتجربة الشعرية بِعَدِّها فعلًا إبداعيًّا فنيًّا، وهي مرحلة التفريغ، أو بتعبير صلاح عبد الصبور، مرحلة "التلوين والتمكين" (عبد الصبور، حياتي في الشعر: 16)، وهي المرحلة الجوهرية التي تلي مرحلة التعبئة؛ إذ لا تُعدُّ الفكرةُ أو التجربةُ إبداعًا فنيًّا، بالمعنى المباشر للكلمة، إلا إذا مرَّت بهذه المرحلة.