أ.د. بديع محمد ابراهيم

أ.د. بديع محمد ابراهيم

الرحلات العلمية الأندلسية الى بلاد المشرق الإسلامي

أ.د. بديع محمد ابراهيم

جامعة الأنبار – كلية الآداب –قسم التاريخ

  تعد الرحلات العلمية الى بلاد المشرق بوجه عام واحدة من اهم السمات التي اسهمت بشكل فاعل في اثراء الحضارة الأندلسية , وقد جاءت اهمية الرحلات نتيجة عوامل مهمة هي  :

اولاً: العامل الديني : وهذا مستند الى ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة عن العلم وطلبه  , وثانيًا : العامل العلمي : اذ كانت بلاد المشرق الإسلامي ( الحجاز , العراق , الشام , بلاد خراسان وما يتبعها ) قد اصبحت مراكز للعلوم , وثالثاً- التجارة: اذ اسهم خروج الأندلسيين في التجارة مع بلاد المشرق الإسلامي وغيرها من البلدان في النهضة العلمية للأندلس , اذ كانت رحلاتهم التجارية يكتنفها احياناً الجانب العلمي , لاسيما انه كان من اولئك التجار من هو صاحب علم , وقد عمل هؤلاء على اقتناء ما يجدونه من كتب ومؤلفات في البلاد التي ذهبوا اليها فيجلبونها الى الأندلس ويبيعونها في سوق الكتب الرائج فيها .

ان المتتبع لتاريخ الرحلات العلمية الأندلسية وغيرهما من الرحلات وما كان يواجه اصحابها من صعاب يدرك أنه لم يكن تحصيل العلوم والمعارف آنذاك بالأمر اليسير , اذ ما كان يقطعه طلبة العلم واصحاب الرحلات من مسافات طويلة تستغرق اشهر عدة ويجوبون البلاد لسنوات , وفي ظروف واحوال واحيانا ًمخاطر, كانت تمثل تحديات وعقبات تستوجب الصبر والثبات على مواجهتها , ولولا ذلك وما كان من عون الله وتوفيقه اولاً لأولئك المجاهدين لتحصيل العلم لما استطاعوا أن ينالوا ما نالوا من خير الدنيا والآخرة , ولما بقيت اسماؤهم يتعاقب ذكرها بين الأجيال لجليل ما قدموا لدينهم وللإنسانية جمعاء .

لقد حرص اصحاب تلك الرحلات الى الوصول الى مرادهم مهما بلغت التحديات , ولم يكن يردعهم رادع عن ذلك , ويكفي أن نورد مثالاً عن ذلك يبين الهمة والعزم التي كانوا عليها , ألا وهي قصة المحدث الأندلسي بقي بن مخلد القرطبي مع الإمام احمد بن حنبل ( رحمهما الله تعالى) اذ يقول عنها عند وصوله الى بغداد:

" لما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غما شديدا، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتا في فندق، ثم أتيت الجامع وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين , ففرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا: - رحمك الله - رجل غريب ناء عن وطنه، يحب السؤال، فلا تستجفني، فقال: قل , فسألت عن بعض من لقيته، فبعضا زكى، وبعضا جرح، فسألته عن هشام بن عمار،، فقال لي: أبو الوليد، صاحب صلاة دمشق، ثقة، وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر، أو متقلدا كبرا، ما ضره شيئا لخيره وفضله، فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال , فقلت - وأنا واقف على قدم: اكشف عن رجل واحد: أحمد بن حنبل، فنظر إلي كالمتعجب، فقال لي: ومثلنا، نحن نكشف عن أحمد؟! ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم , فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي، فقلت: يا أبا عبد الله: رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال: ادخل الاصطوان ولا يقع عليك عين , فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الاقصى, فقال: إفريقية؟ قلت: بعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الاندلس، قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك, فقلت: بلى، قد بلغني، وهذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقوله السؤال، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية, فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الخلق، ولا عند المحدثين , فقلت: لك شرطك، فكنت آخذ عصا بيدي، وألف رأسي بخرقة مدنسة، وآتي بابه فأصيح: الاجر - رحمك الله - والسؤال هناك كذلك، فيخرج إلي، ويغلق ويحدثني بالحديثين والثلاثة والاكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد، وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الابل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة ، ويقرؤه علي وأقرؤه عليه، واعتللت في خلق معه". وقيل أنه روى عنه ثلاث مائة حديث, وهذا الجهد والهمة والصدق في تحصيل العلم هي التي مهدت له ولغيره ان ينال تلك المنزلة التي حضي بها وذاع علمه وصيته في الأندلس .

ويمكن القول أن تلك الرحلات كانت تتم على نوعين , اولهما الرحلات الشخصية التي يكون خروج اصحابها بإرادتهم وبجهدهم المادي , وهذه تكاد تكون الأكثر شيوعاً في الرحلات , اما النوع الآخر فهي الرحلات الرسمية التي تكون مرسلة من لدن امراء او خلفاء الأندلس ممن كان له اهتمام بالغ بالعلوم والمعارف , اذ شجعوا العلماء وقربوهم من مجالسهم , مثل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206-238ه/822-853م     ) , الخليفة عبد الرحمن الناصر ( 300-350ه/912-961م) وابنه الخليفة الحكم المستنصر(350-366ه/961-976م) , اذ كانوا يبعثون الى بلاد المشرق من يتولى تحصيل الكتب والمؤلفات التي تظهر هناك والعمل على نسخها او شرائها واقتنائها مثلما كان محمد بن طرخان الذي ارسله الخليفة الأموي في الأندلس الحكم المستنصر(350-366هـ/ 961-976م) الى بغداد ليتولى مهمة نسخ الكتب وارسالها اليه , اذ كانت هناك اموال طائلة تنفق من أجل الحصول على تلك المؤلفات , ولذلك نجد احيانًا ظهور كتاب ما في الأندلس قبل ظهورها في المشرق لما كان من الحصول وشراء نسخته الأولى من بغداد او غيرها والذهاب بها الى الأندلس , فقد دفع الخليفة الحكم المستنصر الف دينار ذهبًا الى ابي الفرج الأصفهاني للحصول على نسخة من كتابه الأغاني فأسلها اليه قبل أن يظهر الكتاب في العراق , وقد وصف الحكم المستنصر بأنه  كان "جمَّاعًا للكتب"، استطاع أن يجمع نحو 400 ألف مجلد , ولقد أسهمت تلك الرحلات وما نتج عنها من نقل لتلك المؤلفات لعلماء المشرق لا سيما من  بغداد الى الأندلس الى حفظ جزء كبير من ذلك النتاج العلمي والإرث الحضاري الذي تعرض الى الحرق والتدمير على يد المغول بعد دخولهم بغداد .