الميل إلى اللهجات العامية من أسباب الانحدار اللغوي

الميل إلى اللهجات العامية من أسباب الانحدار اللغوي

أ.د. حليم حماد سليمان

في هذا المقال سنقدم تأثير اللهجات العامية على الانحدار اللغوي وكما يأتي :-

إن بعض المغرضين من أبناء أمتنا، وبعض الغرباء عنها، والحاقدين عليها من الأجانب، يروجون لمقولة ظالمة وفيها يزعمون أن هذه اللغة تتسم، في مستويات درسها الصوتي، والصرفي، والنحوي، والدلالي، بالصعوبة، بل وبالتعقيد في بعض المستويات، كالمستوى النحوي؛ وبالتالي فلا مفر أمام أبنائها، كي يسايروا طبيعة العصر وما يشهده من تطور في مناحي الحياة كافة، ومن بينها اللغة، لا مفرّ أمامهم إلا الهروب منها إلى ما ألفته عقولهم، ولاكته ألسنتهم، وهو التعامل باللهجات العامية، واصطناعها لغة بديلة تتسم بالسهولة، والخلو من التعقيد كما يدعون، ويتخذون في هذا الصدد دعوى صعوبة نحو العربية وتعقيده مركباً يمتطونه.

وليس من شك في أن هؤلاء القوم يتخدون هذه الدعوة الخبيثة وسيلة خفية للهجوم على الإسلام، وصرف أهله عن مصدر دينهم الرئيس المتمثل بالقرآن الكريم، الذي أنزله الله بهذه اللغة الشريفة التي بها يتكلمون ويتفاهمون، إضافة إلى هدف آخر لا يقل خطورة عن سابقه، وهو تمزيق وحدة هذه الأمة الواحدة، وشقُّ صفها، وتفتيتُ الروابط التي تجمع بين أبْنائها في أهمَّ آصرةٍ بينهم، وهي اللغة الواحدة، التي هي الآن كلُّ ما أبقى لنا هذا الزمان من صلات ووشائج.

ولعل من نافلة القول أن نذكر، في هذا المجال، أن الصعوبة المزعومة، التي تتسم بها اللغة العربية في مستوياتها المختلفة، لا تخلو منها اللهجات العامية، فهي، أي هذه اللهجات، تخضع لقوانين وقواعد صارمة يعرفها دارسو اللهجات والباحثون فيها، ومن الأمثلة على ذلك إذا قال العراقي مثلا :" فلان انبصط بصطة قوية" فإن السوري والمصري على سبيل المثال سيظنان أنه مسرور جدا.

وورد أيضا من الطرائف أن رجلا من مدينة صيدا زار القاهرة وبينما أراد أن يهم بصعود السيارة علقت قدمه بالباب فصاح مستغيثا بالسائق إجري ، فما كان من السائق إلا أن أقلع بسيارته مسرعا لأنه لم يفهم أن اجري في العامية اللبنانية تعني رجلي ولا يدرى ماذا حل برجل الراكب المسكين؟ هذه القضية تدل على وعي العامة أنفسهم لصعوبة محاكاة اللهجات الأخرى .

نقول : إذا كان الحل في الاعتماد على عامية موحدة بدلا من الفصحى فالمصري مثلا ماذا سيعتمد ؟ أعامية القاهرة أم الاسكندرية أم الصعيد ؟ واللبناني كذلك لهجة بيروت أم بعلبك أم غيرها؟ .

إن تلك الصعوباتِ الآنفة الذكر، التي نقرُّ بوجودها من ناحية، ونعترف بأنها قد انعطفت بعربيتنا، أو جانب منها، عن الجادة السَّلسَة الميسورة، من ناحية أخرى، لا يمكن التغلب عليها بإلغاء اللغة، والتحول عنها إلى العاميات، أو استغلال الدعوة إلى تيسير اللغة وقواعدها، عن طريق تجاوز العزائم في اللغة إلى الرخص، ثم تيسير تلك الرخص بتجاوزها إلى اللحن وهكذا. إن الدعوة إلى التيسير لا يمكن أن تتحقِّق بوساطة إهمال الأمور الرئيسة في اللغة، والقضايا الأساسية التي تمسُّ جوهرها، أو اللجوءِ إلى التمرد والعصيان التربوي، بجعل كلّ صعبٍ سهلاً هيناً، يقوم على الغضّ من شأن الأساسيات اللغوية في ميادين الصوت، والصرف، والنحو، والدلالة، وأساليب اللغة الرفيعة في التعبير. إن التيسير يتحقق، أو يمكن أن يتحقق، عن طريق دأب الطالب وجده، إضافة إلى جودة عمل المدرس، ناهيك عن الطبيعة النوعية للمنهاج. كما يمكن لهذا الأمر أن يتحقق أيضا بتكاتف جهود أبناء هذه اللغة ومحبيها، ونهوضهم معاً بدراسة اللغة وتنقيتها من كل الشوائب التي علقت بها ولوَّثتها منهجاً، وأسلوباً، وتمثيلاً. يبين المشتغل في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل و تصرف الطفل أيضا عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة.

إننا بحاجة إلى الانتقال من طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة ؛ إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر اطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ؛ لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولأن استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة .