الموشّح الأندلسي ... ثقافة الحضارة، وحضارة الثقافة.

الموشّح الأندلسي ... ثقافة الحضارة، وحضارة الثقافة.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

يمثّل الموشّح الأندلسي حضارة الأمة الإسلامية في ذلك الصقع البهي الجميل النضر ، عبر الأدب وتطوّره الحقيقي في الشكل والمضمون ، وذلكم التطور لوحظ من قبل الجميع في هذا الأدب بأغراضه الشعرية الجديدة وفنونه المستحدثة فضلاً عن قيمته الفنية العليا وصنعته المحكمة التي نافس فيها أخاه الشعر المشرقي وأحرجه في بعض السمات والخصائص ، ولاشكّ في إنّ الموشّح أبرز ذلك التطوّر وأكثره تميّزاً وتداولاً في الدرس النقدي القديم والحديث ثمّ في النظم والكتابة فالتلحين والغناء من ظهوره إلى يومنا هذا.

الحضارة التي خلّدها المسلمون العرب في ذلك المكان الساحر الخلّاب عكست ثقافة أولئك القوم في النظافة وحب المكان والوفاء له والشجاعة وحب الجمال والمرأة ومنها حب الأدب واختراع الموشّح دليلٌ علة تلكم الثقافة الأدبية المتحضرة إذ ظهر للغناء وبطريقة النوبة الزريابية التي من شأنها تنظيم الإيقاع على وفق مفاصل الموشّح وأركانها ولاسيما في الأدوار والأقفال الشعرية واختلاف رويها ووزنها ومن ثم اختلاف تلحينها وغنائها ، وهو مما جلب عناية الجميع وحسن أصغائهم حتى غدا ثقافة جديدة مبتكرة عكست الحضارة والجمال في هذا النوع من النظم كما عكست الحضارة والجمال في المكان وما شُيد فيه .

الأغراض الشعرية جمالٌ في جمالٍ في الأبيات الشعرية التي نظمها الوشّاح الأندلسي في هذه الاغراض المختلفة القديمة والجديدة ، النمطية والمستحدثة. ما أجمل وصف الطبيعة ويا لسحره حين يكون مع الخمرة أو بين مجالس الأنس والشرب وليالي الساقي والدنان ، عنوانٌ أخر من عناوين الحضارة والثقافة في الأدب العربي من خلال الأدب الأندلسي في الموشّح . لنتأمل أوصاف السحب والبرق والجوّ والأرض في قول وشّاح الأندلس ابن زُمرك الغرناطي :

والسحبُ بالجوهر استهلّت                                      فالبرقُ سيفٌ مُجَوْهَرْ

صفاحُهُ المذهباتُ حلَّتْ                                          في راحةِ الجوِّ تُشْهَرُ

كم للصَّبا ثَمَّ من مَقيلِ                                            بطيبه الزَّهْرُ يَشْهَدُ

والنهر كالصارم الصقيلِ                                        في حِلْيةِ النَّوْرِ يُغمَدُ

وربَّ قالٍ بِهِ وقيلٍ                                                للطير في حينٍ تُنْشِدُ

لوحات ثقافية حضرية يرسمها وشّاح أندلسي بارع مثل ابن زُمرك مثلما رسمها الأمراء والخلفاء في أروقة القصور والمساجد والأسواق في مدن الأندلس وقصباتها جميعاً.

في الغزل الفستان الأندلسي مطرزاً بألوان الثقافة والحضارة عبر الأدب الواصل إلينا ولاسيما في الموشّح . وكان ذلك التطريز للفستان الأندلسي في الغزل يأتي نظماً وبهاءً وثقافة وحضارة مع الوشّاحين جميعاً من مثل : الأعمى التطيلي ، ابن بقي ، ابن سهل الاشبيلي ، ابن زُمرك ، ابن خاتمة الأنصاري . من قول شيخ التوشيح الأعمى التطيلي :

ضاحكٌ عن جمانْ                                                سافرٌ عن بدرِ

ضاق عنه الزمانْ                                               وحواهُ  صدري

 وما أبهى الموقف حين خرّق الباقون موشحاتهم إعجاباً وإكباراً لصنيع الأعمى في موشّحته.

مع صور الطبيعة تنساب صورة الحبيب إلى القارئ والمتلقي لأبيات الوشّاح في موشّحته ، وتكاد الصورة واحدة ولها قواسم مشتركة كثيرة في الجمال والوصف والرسم من الثقافة والحضارة في الألفاظ والتراكيب والصور والإيقاعات . لعبّادة القزاز قوله من موشّح:

بدرُ تمْ ، شمسُ ضحى                                             غصن نقا ، مِسكُ شمْ

ما أتمّ ، ما أوضحا                                                 ما أورقا ، ما أنمْ

ومع غرض المديح برزت ثقافة الحضارة وحضارة الثقافة ، وكيف لا تبرز وهي تخاطب السلطة العُليا في المجتمع ولها هذه الانجازات الكبيرة التي شهد لها الجميع بالتمام والسمو والرفعة. الأدب الأندلسي ومن خلال الموشّح يترجم لنا هذه الثقافة الحضرية شعرياً كما في موشّح لابن زمُرك من أبياته التي يمدح بها ممدوحه ويقدم له خالص التهنئة بإبلاله من مرضه:

قد أنعم الله بالشفاءِ                          واستكملت راحةُ الامامْ

فلتنطقِ الطيرُ بالهناءِ                       وليضحك الزهرُ في الكمامْ

وجودُهُ بهيجةُ الوجودْ                       وبرؤه راحةُ النفوسْ

قد لاح في مرقبِ السعودْ                  واستبشرت أوجهُ الشموسْ

فالدوحُ يومي الى السجودْ                 أكمامه حطّتِ الرؤوسْ

وقس على ذلك باقي الأغراض في مثل هاته الحضارة والثقافة في الألفاظ والتراكيب وأنيق الصور ولطافتها وجمالها ، ولا أزيد . فضلاً عن أثر مثل هذه الموشّحات في الأدب الأوربي العالمي وفي الشعر الغنائي من هذا الأخير مما سأتكلّم لكم أحبتي عنه في مقال قادم ... إن شاء الله تعالى.