ابن الفرضي (ت 403ه ) عالم الأندلس ومؤرخها وشاعرها

ابن الفرضي (ت 403ه ) عالم الأندلس ومؤرخها وشاعرها

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة - جامعة الأنبار .

هو مؤرخ بارع في التاريخ على قلة ما وصل إلينا من تصانيفه ، ولعلّ كتابه (تاريخ علماء الأندلس) من أوائل مؤلفات الأندلس التي تترجم لعلماء أهل الأندلس وكان الكتاب من أهميته ونفاسته إذ فتح سلسلة علمية من بعده لتتمة هذه التراجم اللامعة في الفقه وعلوم الحديث واللغة استمرت لقرون من العطاء في ذلك الصقع البهي ، إذ ألّف ابن بشكوال كتابه (الصلة ) صلة لهذه التراجم الذهبية إلى عصره ، ومن ثم ألّف الموسوعي الأديب الآثاري ابن الابار كتابه الكبير (التكملة لكتاب الصلة ) بأربعة أجزاء سمينة في المادة العلمية وثقل التراجم التي يكتب عن كل واحدة منها وإلى عصره طبعاً، ومنها الى ابن المراكشي وكتابه الشهير (الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة) وهو بأسفار عدة في كل سفر منها مادة غنية وجليلة المنفعة والفائدة ولاسيما مع الأدباء والشعراء واشعارهم في كل مكان وفي أي غرض. وخُتمت هذه السلسلة الذهبية العلمية النفيسة بكتاب ابن الزبير (صلة الصلة) وهو مهم جداّ إذ يترجم بعلماء الأندلس في نهاية عصورها ، ويحوي تراجم نادرة ومعلومات قيمة يكاد صاحبها ينفرد بها وبنصوصها المختارة من الشعر والنثر ومأثور القول.

فهل استطاع أحد من أهل المشرق أو من غيرهم عمل مثل هذه السلسلة الطويلة وبهذه العناية والاحاطة بالتراجم الشخصية وتراثها الأدبي والفكري والفلسفي والديني والاجتماعي ؟؟!! وهل نحن قادرون اليوم على إنجاز سلسلة مثل هذي في التراجم لعلماء المشرق أو المغرب أو الأندلس أو غيرها من الأماكن في عصرنا المعيش؟؟!!

ابن الفرضي عالم رباني ومتدين كبير متدين عن علم في العلوم الفقهية وعلوم الحديث وعلوم القران الكريم بأنواعها وتشعباتها ، سأل الله – سبحانه – أن يقتل مظلوماً في سبيل الله تعالى يوم حج مكة وزارها وهو معلقٌ بأستار الكعبة المشرفة ، وكان له ما أراد حين قُتل مظلوماً صابراً محتسباً في السادس من شوال من عام 403 ه ، يوم دخل البربر قرطبة مع سليمان المستعين بالله .

وابن الفرضي لمن لا يعرف ذلك شاعر أيضاً إلا إنَّ شعره لم يصل إلينا على الأكثر ، أو لنقل إن أكثره لم يصل إلينا ولقد ضاع جله كما ضاعت مصنفاته بسبب عاديات الزمن الظالم وللأسف الشديد.

وشعره تبين فيه مسحته الدينية الخالصة ، وعقيدته الإسلامية الصادقة لوجه الله الكريم العزيز ، فهو أسير الذنوب العارف بها الخائف من عواقبها ، والذي يرجو الله – سبحانه وتعالى – الصفح عنها ، وإلا كيف ستكون الخواتيم . ومن البداهة مثل هذه المشاعر تكون من مسلم عُرف بالتقوى والصلاح والورع مثل عالمنا وفقهينا ابن الفرضي في حياته العلمية والعملية ، فيكف كانت في شعره ؟؟ فلنستمع إلى إحدى مقطوعاته الشعرية :

أسيرُ الخطايا عند بابك واقفُ                             على وجلٍ مهابه انت عارفُ

يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيبها                         ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائفُ

ومن ذا الذي يُرجى سواكَ ويُتقى                        ومالك في فصل القضاءِ مخالفُ

فيا سيدي لا تُخزني في صحيفتي                        إذا نُشرت يوم الحسابِ الصحائفُ

وكنْ مؤنسي في ظلمةِ القبرِ عندما                     يصدُّ ذوو وذي ويهفو المُوالفُ

لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي                   أرجو لإسرافي فإني لتالفُ

وله شعرٌ بمثل هذا الحزن والألم ولكن في الغربة وفي قصة رحيله عن الأندلس إلى المشرق ، وتذكر الخلان والأهل والمقربين من أهل رحمه وبيته. وفي هذا الشعر يذكر ابن الفرضي الزمن بمدته وموعد غيابه عنهم في رحلته هذه ، ويذكر ما تفعله الغربة القاسية لرجل مثله أحب البلاد والعباد وانهى عمره في خدمتها وتعليهما العلوم النافعة الشرعية واللغوية والتاريخية . يقول شعراً في غربته هذه :

وما لي حياة بعدكم استلذها                                     ولو كان هذا لم أكن بعدها حُرّا

مضت لي شهورٌ مذ غبتم ثلاثة                                 وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا

أُعلل نفسي بالمنى في لقائكم                                      واستهل البرَّ الذي جبتُ والبحرا

ويؤنسني طيّ المراحل بعدكم                                      أروحُ على أرضٍ وأغدو على أخرى

ووُصف – يرحمه الله تعالى – بالدعابة وروح الخفة والمرح والهزل – أحياناً- حتى في أصعب الأوقات ، ومن ذلك ما كان له من شعر في الغزل ، وهو كما ذكره أهل التراجم من الشعر الرائق ، إذ يصف القمر الذي طلع عليه وهام بحبه وذل جسمه ونظره على عادة أهل العشق والغرام في ذلك ، فبات سقيم العينين والجفون والأحداق لما رأى من سحر ذلك الجمال ، وهي روحٌ خفيفة الوصف تُحمل على التقليد لأهل هذا الغرض في المشرق والمغرب ، يقول ابن الفرضي :

إن الذي أصبحت طوع يمينه                            إنْ لم يكنْ قمراً فليس بدونهِ

ذلي له في الحبِّ من سلطانهِ                              وسقامُ جسمي من سقامِ جفونهِ

أُطلق على ابن الفرضي : الفقيه .

وأُطلق عليه : الحافظ .

وأُطلق عليه : الأديب .

وأُطلق عليه : المحدث .

وأُطلق عليه : المؤرخ .

وأُطلق عليه : الشاعر ... أيضاً .

ولقد تولّى مهنة الكتابة وتولى مهنة القضاء ببلنسية ، ولو قدر الله – عز وجل – ووصل إلينا أكثر شعره لكان في ديوان نضعه إلى جنب دواوين القرن الرابع الهجري في الأندلس  . ولكان تحفة أدبية علمية أخرى تضاف إلى تحف الأندلسيين في هذا القرن البهي الجميل .

رحم الله ابن الفرضي العالم الأندلسي الأديب الفقيه الحافظ المحدث القاضي الكاتب ، ورزقنا أمثاله وأمثاله في أمتنا الإسلامية اليوم أو غداً.....