نشر العامية في عصر الفضائيات من طرق مهاجمة اللغة العربية في العصر الحاضر

نشر العامية في عصر الفضائيات من طرق مهاجمة اللغة العربية في العصر الحاضر

أ.د. حليم حماد سليمان

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة – جامعة الانبار

من التحديات التي تواجهها اللغة العربية عزلة اللغة عن الاستعمال العام، حيث حلت اللهجات العامية محلها، وأخذت مكانها في ألسنة الناطقين العرب. ونتج عن ذلك نشوء مجموعة اللهجات المحلية، التي تختلف من بلد لآخر داخل القطر الواحد، فإذا كان عدد البلاد العربية اثنتين وعشرين دولة، هي مجموع الأعضاء في جامعة الدول العربية، فإن لدينا اثنتين وعشرين لهجة عامية، تتفرع عنها لهجات بلدية تتميز كل منها عن الأخرى ببعض الخواص الصوتية، كما هو الحال في لهجة الموصل التي شملت على ألفاظ يصعب على الأنباري فهمها.

وهكذا الحال في كل قطر عربي، غير أنهم يقتربون من اللغة الفصحى عند مستوى ثقافي معين، فيخلطون مستوى الفصحى بمستوى العامية، وتنشأ عن ذلك لغة (فصعمية)، أي: خليط من الفصحى والعامية، وهذا الخليط يختلف نسبياً من دولة إلى دولة. وإن كانت كمية الاختلافات قليلة، نظراً إلى انتشار وسائل الإعلام التي تستخدم في أحيان كثيرة المستوى (الفصعمي).

ولسنا نستطيع أن نتجاهل عاملاً خطيراً من بين عوامل عزل الفصحى، وهو استعمال المشتغلين بالتدريس في المدارس العامة (حتى نهاية المرحلة الثانوية) للهجات، أو لمستوى رديء من الفصعمية.

وأخطر من ذلك تأثيراً استخدام أساتدة الجامعات في الآداب للعامية (اللهجات المحلية)، وليس ذلك من باب المبالغة أو التجني، فنحن لا ننكر وجود أساتذة يحترمون اللغة الفصحى، ويلتزمون بأدائها في محاضراتهم. وفي مقابل هؤلاء نجد بعض من يدرسون مادة (النحو العربي) ويستخدمون اللهجات العامية في مخاطبة الطلاب بقواعد النحو وسائر علوم العربية.

هذا تصوير غير مخل للوضع الذي تواجهه الفصحى في أوطانها العربية، فهي لا تجد لخطواتها مكاناً يسعها، اللهم إلا في بعض خطب الجمعة - على قلة - فأما مجالات الخطاب الجماهيري، فقد أخلصت ولاءها للعامية، وخاصمت الفصحى قولاً واحداً.

وهذا كله يدعونا للقول " لقد عادت الدعوة للعامية أكثر نشاطا مما بدأت به عبر دعاتها السابقين، عادت تطبيقاً من خلال بعض الفضائيات والإذاعات الأهلية " وعندما تضاف التباينات المذهبية إلى التنوعات اللهجية واللغوية تصبح أرضية المؤامرات مهيأة للحرث، وتصبح لكل مجموعة مذهبية خصائصها اللغوية تدريجيا. وشيئا فشيئا تتفسخ مشاعر الوحدة العربية.

وقد نتساءل بعد ذلك عن حقيقة (الفصحى) ما هي؟ وغاية ما يمكن أن نقوله هو: أنها مستوى من الأداء اللغوي ملتزم بالنمط القرآني، حفاظاً على شكل الكلمة العربية وزناً ومعنى، ووصلاً ووقفاً وضبطاً والتزاماً بالمعجم الذي يشير إلى الجائز والممتنع، مع عدم تجاهل ما أوصت به المجامع العربية اللغوية.

والقرآن الكريم هو دستور اللغة الفصحى المعاصرة، ولاسيما في أدائه المتميز، فيما عدا الالتزام بأحكام تجويده.

ونحن بهذا التعريف لا نشق على الناطقين بالفصحى؛ لأن حفظ القرآن يطلق الألسنة الحافظة (العربية) بنمط الأداء القرآني دون أدنى مشقة. وللقرآن - كما نعلم - أثر في الحفاظ على الفصحى، والإبقاء عليها رغم كل عوامل الإحباط التي تحوطها، حتى لقد كادت أن تتحول إلى لغة خاصة، أو بالأحرى: لغة أرستقراطية، لا يستعملها إلا من تتوفر فيهم مواصفات أدبية وعقدية معينة.

ولعل من عجائب القرآن أن تقوم بحفظ وإتقان أدائه ألسنة أعجمية لم تذق حرفاً عربياً، ومع ذلك نجد أطفالاً وشباباً، ذكوراً وإناثاً يحفظون عن ظهر قلب، بل ويجيدون أداءه بأحكام التجويد، وهم لا يفهمون جملة واحدة من جمله، أو آية من آياته.

ولقد أدرك أعداء الإسلام أن حربهم ضده يجب أن تعتمد على محاربة اللغة العربية، وإحياء اللغات القومية، سعياً إلى تقليص وجود القرآن، وتهميش عقيدته.

إن الواقع الذي تحياه لغتنا العربية هو واقع لا يبشر بمستقبل طيب، خاصة إذا لم تتكاتف جهود أبناء الأمة العربية، مع جهود أبناء هذا الوطن في حماية هذه اللغة، والذود عن حياضها.

إن الوضع العام للإعلام في بلادنا، بجوانبه الثقافية، والفنية، والفكرية، تغلفه الركاكة، والضعف، والجنوح، نحو اللهجات العامية. فالقارئ للصحف ونشرات الأخبار، والمستمع إلى محطات الإذاعة، والمشاهد المستمع للمسلسلات القصصية ونشرات الأخبار في التلفاز، عندنا هنا في العراق، وفي الأقطار العربية الشقيقة أيضا، يشعر بمدى الانحدار والوهن الذي تعانيه عربيتنا المستعملة فيها. إن باستطاعة وسائل الإعلام المختلفة، التي تدخل بيوتنا، وأماكن عملنا، ومرافق حياتنا المختلفة، في كل وقت، دونما استئذان - باستطاعتها أن تنهض بواقع هذه اللغة من الدَّرْك الذي وصلت إليه، إلى الدرجة التي نطمح إليها، فهي أكثر الوسائل والوسائط الممكنة والمتاحة تواصلاً وتعاملاً وتفاعلاً مع الإنسان، وهي ذات تأثير بالغ في تشكيل عقل هذا الإنسان، وفكره، إضافة إلى ضبط لسانه وصياغته.

بيد أن وسائل الإعلام، في وضعها الحالي، لم توظَّف على نحو ناجع ومنتج، فهي الآن أقرب إلى إضاعة الوقت، ونشر رطانة اللسان، منها إلى حياة الجد والبناء، وإصلاح ما أفسدته قوى الهيمنة الإعلامية، التي تشترط في الإعلامي مواصفاتٍ مختلفةً ومتعددة ومتنوعة ليس من بينها، في الأعم الأغلب، مراعاةٌ للقيم والمبادئ العالية، أو لقيمة الأداء اللغوي، وسلامة النطق والقراءة، وذلك على الرغم من إجماع العرب على أن لغتنا العربية، تمثل خط الدفاع الأخير الذي يمكننا، من خلاله، حماية أنفسنا من الهجمة الشرسة للأعداء، وتعد أيضا آخر ما تبقى لنا من وسيلة يمكن أن تؤلف بين قلوب أبناء هذه الأمة، وتجمعَهم معاً على صعيد واحد مشترك.  وعلى هذا، فإن الأمل معقود على أصحاب القرار والغيْرة في أن يبذلوا ما لديهم من إمكانات، ويسخروا ما بوسعهم من قدرات، لدعم المؤسسات الإعلامية المختلفة، وتزويدها بالمتخصصين ذوي الكفاية العلمية والثقافية، كي يكونوا وسائل رفع وإسناد لمؤسسات التربية والتعليم في مهمتها المتمثلة في تحسين مستوى الأداء اللغوي، الذي يمكن أن يتخذ طريقاً سليماً وسوياً على ألسنة الجمهور العربي بعامة، وألسنة أبنائنا الطلبة وأدائهم اللغوي العام في المدارس، والجامعات بخاصة، إذا ما تمّ  توظيف الوسائل الإعلامية المختلفة توظيفاً إيجابياً، يقدم للمرء ما يحقَّق له الرقيّ النفسي والفكريَّ من جهة، ويحفظ له فصاحة اللسان، وجودة الأداء من جهة أخرى.

ويرتبط بحديثنا عن الإعلام العام، وما يشكله، في كثير من ظواهره ومظاهره، من تحدٍّ كبير وخطير للغة العربية في العراق، حديث آخر لا يقلُّ، في خطورة تحديه للغة العربية، عن التحدي السابق، ونعني به، ما تواجهه العربية، على ألسنة جمهور كبير جداً من الخطباء والوعاظ في بيوت الله، وعلى منابر رسوله الكريم.

إن الكثيرين ممن يتصدون لإلقاء الخطب والدروس، في المناسبات الدينية المختلفة، وعلى رأسها تلك المناسبة الدينية المتكررة أيام الجمع، لا يتقنون العربية، ولا يجيدون أداءها على النحو الذي تقتضيه قواعدها صرفاً، ونحواً، وأسلوباً. وهذا من شأنه أن يضيف إلى المتاعب، التي تواجهها لغتنا هماًّ آخر، ما كان له أن يكون في أكثر الأمكنة التي يفترض فيها أن تكون حصناً يدافع عن اللغة، ويذبُّ عنها، وهي المساجد.

إن الدرس الأسبوعي، الذي يلقيه نفر ليس بقليل من أولئك الخطباء والوعاظ على منابر تلك المساجد، تتعرض فيه اللغة، على ألسنة هؤلاء، إلى الكثير من التشويه واللحن الذي يدخل الألم والأذى إلى النفوس والآذان، والخلل والخطل إلى المعاني والدلالات. وهذا يعني أن ما تتعرض له لغتنا في المؤسسات التعليمية، في هذه الديار المقدسة، لا تجد له عربيتنا عاصماً يحميها، ويدافع عنها، ويخفف من حدَّة تراجعها حتى في هذه الأماكن المقدسة التي يفترض فيها أن تكون قلعة حماية ودفاع عن اللغة، باعتبارها الوسيلة والقناة التي يتجسد من خلالها الإسلام العظيم، بقرآنه الكريم.

من هنا، فإن الواجب يحتم علينا أن نولي هذا الأمر عناية كبيرة، واهتماماً بالغاً. ولعلنا نجد في زيادة الجرعة اللغوية، المشفوعة بالجوانب الوظيفية والتطبيقية للعربية، التي يجب أن يأخذها الطالب في كلية الشريعة، إلى جانب علوم الفقه والأصول - ما يحدُّ من طغيان اللحن، وفشو الفساد على الألسن في تلك الأماكن المقدسة التي يجب أن تكون خالية من أيَّ تلوث لغوي، يعدُّ، في حالة وجوده، نوعاً من الضلال الذي يحتاج إلى إرشاد، كما طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.