تحرير بيت المقدس والعهدة العمرية

تحرير بيت المقدس والعهدة العمرية

أ.د.مظهر عبد علي

عميد الكلية

جامعة الأنبار – كلية التربية الأساسية/حديثة

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد:

     احتلت دراسة المدن وتاريخها لا سيما الدينية منها أهمية كبيرة في التاريخ الاسلامي، نظراً للدور الكبير الذي أدته وعلى مختلف العصور، ومن هذه المدن بيت المقدس، تلك المدينة التي عرفت بفضائلها، فقد عرف العرب بيت المقدس منذ عصر ما قبل الاسلام، وقرن الإسلام نفسه عند ظهوره بها، إذ أن حرمتها وأهميتها البالغة عند المسلمين، أمر لا يرقى إليه الشك، إنها مدينة الرسل وأولى القبلتين، والمدينة التي أسري إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصعد منها إلى السماء في حادثة المعراج، فكانت مركز جذب روحي كبير، وإن فتحها كان هدفاً يحمل في طياته تحدياً لأهل الكتاب من اليهود والنصارى .

     شكلت بينت المقدس القاعدة البيزنطية المهمة، ومركز تجمع البيزنطيين الذين فروا من الواقع التي هزمت فيها جيوشهم مثل أجنادين، وحمص وقنسرين، واليرموك وغيرها، كما كانت ملجأ للذين خرجوا من المدن التي فتحها المسلمون، ورفضوا البقاء فيها مثل دمشق، وكان الأرطبون، وهو أحد القادة البيزنطيين، من بين الذين التجأوا إليها، وقاد عملية المقاومة ضد المسلمين.

     كان التحرير الأول للمدينة المقدسة في العصر الراشدي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب(t)، إذ قاد عمرو بن العاص عملية حصار المدينة بوصفه قائد الجبهة الفلسطينية في الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة، وخالد بن الوليد يفتحان شمالي بلاد الشام، وقد واجه مقاومة ضارية من جانب حاميتها وسكانها، ووجد مشقة بالغة في امتصاص الهجمات البيزنطية، فأرسل إلى الأرطبون يطلب منه التسليم مثل بقية المدن، ووعده بالأمان، واستعمل البيزنطيون المجانيق من فوق الأسوار لضرب المواقع الإسلامية، فسببت أضراراً بالأرواح والمعدات، وعانى المسلمون من مصاعب طبيعية قاسية، فاستغل الأرطبون سوء الأحوال الطبيعية التي لم يتعود عليها المسلمون، ورفض الدخول في الصلح، وأطال أمد الحرب، وشدد ضرباته ضدهم وهو يأمل أن يلحق بهم الهزيمة، أو يضطرهم إلى فك الحصار عن بيت المقدس .

     اضطر عمرو بن العاص، في هذه الظروف القتالية الصعبة، أن يكتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب(t) في المدينة يطلب منه المساعدة، ويستعين برأيه بقوله: "إني أعالج حرباً كئوداً صدوماً، وبلاداً أدخرت لك، فرأيك" .

     استجاب الخليفة عمر(t) لطلب المساعدة، وتصرف على ثلاثة محاور: فأمده بمدد من عنده، وأرسل إلى أبي عبيدة لينجده، وكان قد فرغ لتوه من تطهير شمالي بلاد الشام، فغادر المنطقة ونزل في الجابية، وقد صحبه خالد بن الوليد، وقرر المجيء إلى بلاد الشام ليكون قريباً من مجرى الأحداث، وهذا يعني أنه أولى تحرير بيت المقدس عناية خاصة نظراً لأهميتها الدينية والروحية عند المسلمين ، وأرسل إلى يزيد بن أبي سفيان بأن يبعث أخاه معاوية قيسارية، وتبدو خطة الخليفة عمر(t) واضحة في أن يستغل البيزنطيين في أكثر من جبهة في وقت واحد لإضعافهم، وحتى لا يمدوا يد العون لأهل بيت المقدس، فنزل معاوية بجنوده على قيسارية وحاصرها.

     تسلم أبو عبيدة فور وصوله قيادة القوات الإسلامية، فارتفعت معنويات الجند، وتسرب في المقابل الخوف إلى قلوب المدافعين، وبخاصة بعد أن فشلوا في إلحاق هزيمة مؤكدة بقوات عمرو، كما أن سقوط المدن المحيطة ببيت المقدس كان له أثره السلبي على معنوياتهم؛ لأنهم حرموا من الإمدادات، ولو تأتهم نجدة من هرقل، وعلموا أن الخليفة عمر(t) في طريقه إلى المنطقة، فأدركوا عندئذ أن مدينتهم لن تستطيع الاستمرار بالمقاومة، وأن سقوطها مسألة وقت، فانسحب الأرطبون مستخفياً في قوة من الجند إلى مصر، وتسلم البطريك صفرونيوس مقاليد الأمور في المدينة، فأصلح استحكاماتها، وشحذ همم سكانها في محاولة أخيرة للصمود، وأجبرهم الحصار الطويل الذي استمر أربعة أشهر على البقاء داخل أسوار مدينتهم، لكن القتال بين الطرفين لم يتوقف خلال تلك المدة .

     عرض أبو عبيدة على البطريك ثلاثة شروط هي: اعتناق الإسلام أو استسلام المدينة، ودفع الجزية أو تدمير المدينة، اختار البطريرك استسلام المدينة على أن يسلمها إلى الخليفة عمر(t)، وكان قد علم بنزوله في الجابية، وقد رأى في الاستسلام حماية للمدينة، ولأماكنها المقدسة من الدمار من ناحية، ومنع سقوطها في أيدي اليهود المناوئين له من ناحية أخرى .

العهدة العمرية :

     تتباين روايات المصادر التاريخية التي تتحدث عن اتفاق اطلق عليه العهدة العمرية، وهي وثيقة الصلح التي أعطيت إلى سكان بيت المقدس ، فقد ذكر أن الخليفة عمر(t) كتب إلى أهل إيلياء (بيت المقدس) كتاباً جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم، وأموالكم وكنائسكم لا تسكن، ولا تخرب إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً، وأشهد شهوداً" .

     والجدير بالذكر أن جميع روايات المصادر تتفق على تحديد طرفي العقد بـالخليفة عمر بن الخطاب(t)، وأهالي بيت المقدس، وأن العهد بين الطرفين عقد في الجابية مكان نزول الخليفة عمر(t)، أما تاريخ توقيع العهدة العمرية، فهو شهر محرم من سنة 17هـ/ شباط 638م .

     ومما تجدر الاشارة إليه بأن العهدة العمرية أظهرت كرماً بالغاً مع النصارى لم يتهيأ لهم في التاريخ، وهي في حد ذاتها ظاهرة ملفتة ومميزة في العلاقات المتبادلة بين الأديان، وتكشف لنا جوانب مهمة عن طبيعة التفاهم بين المسلمين والنصارى، ونوع العلاقات بينهما في تلك الحقبة من الزمن، وأياً كان أمر العهدة العمرية، وعلى الرغم من التباين في نصوص روايات المصادر وألفاظها، فمن المؤكد أن لها صلباً تاريخياً، وأن فحوى الروايات تتفق على سماحة المسلمين، ورعايتهم للحرمات الدينية بما يتفق مع السياق العام للمعاهدات الإسلامية مع أهل الذمة .

     دخل الخليفة عمر بن الخطاب(t)، وأصحابه إلى بيت المقدس بعد عقد الصلح، ورافقهم البطريرك صفرونيوس يدلهم على آثارها، وعاد بعد ذلك مع قادة جيشه إلى الجابية لاستكمال مناقشاته، ومشاوراته في شؤون المسلمين، وتنظيم ما تم فتحه من بلاد الشام .