بلاغة التعبير القرآني وقفة وتأمل

بلاغة التعبير القرآني وقفة وتأمل

أ.م.د. أحمد جمعة محمود الهيتي

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية/حديثة – جامعة الانبار

القران الكريم هو قبل غيره حث على دقة استعمال اللفظ في محله، وهذا أمر لا يتسنى لأحد ادعاء ابتكاره، وإنما هو درس عظيم لفت الأنظار إليه القرآن الكريم نفسه الذي خاطب الأعراب بأن يكونوا دقيقين في انتقاء اللفظ وتخيره تحقيقاً لصدق المعنى المراد، وذلك في قوله تعالى: (( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـَكِن قولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)) وبهذا تقع الكلمة لمعناها المقصود بالتعبير بها في موضعها.

وهذا الرقي في تخير الألفاظ في التعبير القرآني كان مدعاة للقبائل أن تفاخر بما في ألفاظها من شَبَه بألفاظ القرآن أو من استعمال للقرآن الكريم لها، قال الجاحظ في البيان والتبيين:" قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة، فقال ابن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم، أنتم تسمون القدر (بُرمة)، وتجمعون البرمة على (برام)، ونحن نقول: قدر، ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل:((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسياتٍ))، وأنتم تسـمون البيت إذا كان فوق البيت (عُليِّة)، وتجمعون هذا الاسم على (علالي)، ونحن نسـميه (غرفـة) ونجمعهـا على (غرفات) و(غرف)، وقال الله تبارك وتعالى:((غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ))، وقال: ((وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) وأنتم تسمون (الطلع): الكافور والإغريض، ونحن نسميه الطلع، وقال الله تبارك وتعالى: ((وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ)) يقول الجاحظ: "فعد عشر كلمات، لم أحفظ منها إلا هذا. وإن هذا الزهو بلغة القرآن الكريم عظم وقعه وأثره عند من عرف قدره، فقد أدرك العرب هذا النهج القائم على انتقاء اللفظة التي لا يتسنى لغيرها أن يحل محلها لأداء المعنى المراد، أولئك هم أصحاب الفصاحة الذين لم يعرف اللحن طريقاً إلى لغتهم كي يلج فيها، فكان أحدهم يملك من الذوق السليم ما يؤهله أن يكون ناقداً لما يسمعه من ألفاظ ومنتقداً لمن يضع لفظاً في غير محله، فقد "سمع ابن هرمه رجلاً ينشد قوله:

باللهِ ربِك إن دخلتَ فقل لها ** هذا ابنُ هرمة قائماً بالباب

فقال له ابن هرمة: لم أقل (قائماً)، أكنت أتسوّل ؟ فقال الرجل (قاعداً)، فقال ابن هرمة: أكنت أبول؟ قال الرجل: فماذا قال؟ قال ابن هرمة: (واقفاً)؛ وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى، ففرق بين (القيام) و(الوقوف) و(القعود) في البيت، فالقيام: يقتضي الدوام والثبوت، أما الوقوف فلا يقتضيهما، و يروى أن الأصمعي كان يتحدث في مجلس، واستشهد بالآية: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم). فسأله أعرابي: كلام من هذا؟ فرد الأصمعي: هذا كلام الله. فقال الاعرابي بثقة: هذا ليس كلام الله. فعجب الأصمعي والحضور من إنكار الإعرابي آية من كتاب الله، فسأله: هل أنت من حفظة القرآن؟ قال الأعرابي: لا. قال الأصمعي: هل تحفظ سورة المائدة؟ (التي بها هذه الآية). قال الأعرابي: لا. فتناول الأصمعي المصحف وفتح سورة المائدة وهو يقول بثقة: هذه هي الآية، اسمع (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) (المائدة: 38). فتنبه الأصمعي للخطأ، حيث إنه أخطأ في قراءة نهاية الآية بقوله (والله غفور رحيم)، والصحيح هو (والله عزيز حكيم). فأعجب بنباهة الأعرابي الذي فطن إلى الخطأ على الرغم من أنه ليس من حفظة القرآن، فسأله: يا أعرابي.. كيف عرفت؟ قال الأعرابي: عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع.

ومن هذه الدقة ننطلق لفهم حقيقة الاستعمال القرآني للألفاظ، لنفهم كيف كان القرآن الكريم مواكبا للقواعد النحوية واللغوية وأصول استعمالاتها، وانطلاقتنا هذه من واقع استعمال العربي للألفاظ كما جاءت في القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر استعمال القرآن (الرحمن الرحيم) متتابعتين ، وهو ما يجعل السائل يسأل ولم ذكرهما  مجتمعتين؟ ألا تكفي واحدة منهما لتحقيق الرحمة المرجوة؟ وأهل التفسير والبلاغة يقولون: المقصود أن الله تعالى رحمن الدنيا والآخرة ورحميهما، وعند الرجوع إلى استعمال العربي لصيغتي (فعلان) و(فعيل) ندرك أن التعبير القرآني عمد إلى استعمال (الرحمن)  التي على صيغة فعلان التي تدل على حدوث الفعل في أقصى معانيه وقيمته، لكن الصيغة تنتهي بعد أن وصلت بالفعل إلى اشد مستوياته لتحقيق المعنى، ولكي تكتسب هذه القيمة المتحصلة بصيغة (فعلان) الدوام والاستمرارية جاء التعبير بلفظة الرحيم لتكون هي الضامنة لهذه الديمومة كون (الرحيم) على صيغة فعيل التي تدل على الاستمرار، ولو تتبعنا قوله تعالى: ((أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)) لوجدنا استعمال حروف العطف في هذه الآية مساوقا للمعاني التي يعرف بها كل حرف، فالقرآن الكريم وضع كل حرف في محله، وثمة من قال من المفسرين إن الآية فيها أربعة تهديدات بالويل لارتكاب أربع جرائم وهي ((فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى))، وثمة من رأى أنها تهديدات أربعة في أزمنة أربعة أيضا، وهي الويل لك في الدنيا وأنت حي فالويل لك عند موتك، ثم الويل لك وأنت في البرزخ، فالويل لك يوم القيامة، وكل حرف من أحرف العطف استعمل في الموضع الذي يوافق معناه، فلما لم يكن بين الحياة والموت فاصل جيء بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، لكن وجود الفاصل الزمني بين موت الإنسان ودفنه وما يعقب موته من أفعال كغسله وتكفينه والصلاة عليه جعل التعبير القاني يعمد إلى استعمال (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، ولما لم يكن بين البرزخ ويوم القيامة فاصل زمني عاد القرآن الكريم فاستعمل الفاء التي تخلو من الفاصل الزمني، ومما يلفت النظر في استعمال (ثم) أنه استعمل بعد الموت والانتقال الى البرزخ ويوم القيامة ولاشك أن الهول أشد من الموت، وهو تأكيد لقاعدة تقول إن (ثم) يكون المعطوف بها أشد وأقوى من المعطوف عليه، والعرب تقول إن الذي فعله فلان بالأمس أعجبني ثم الذي فعله هذا اليوم أعجبُ، ليتضح لنا سبب التنوع في استعمال الحروف وغيرها

ومن هنا نشير إلى ماعمد اليه القرآن الكريم من إيثار للألفاظ بعضها على بعض أسماء وأفعالا وحروفا.