صورة المعتمد بن عبّاد الإشبيلي (ت488ه ) في الشعر الأندلسي ، جماليات التشكيل وتمام المعنى... ابن وهبون المُرسي (ت484ه ) مثالاً.

صورة المعتمد بن عبّاد الإشبيلي (ت488ه ) في الشعر الأندلسي ، جماليات التشكيل وتمام المعنى... ابن وهبون المُرسي (ت484ه ) مثالاً.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / جامعة الأنبار

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين في هذا الكعوب المبين ،

وبعد،

ابن وهبون المرسي الشاعر الفارس والفارس المقاتل في الأندلس ، وهو الشاعر ذو الثقافة الأدبية الواسعة العالية التي عرفناها في شعره ، وعرفها كلّ من قرأه وحفظه وأنشده في موضوعاته المختلفة التي نظم فيه هذا الشاعر الأندلسي الكبير  - ولعلّي أكون منهم – والحمد لله رب العالمين.

حين نقرأ شعر ابن وهبون المرسي نسمع قرقعة الألفاظ القوية وجزالة الأسلوب وعمق الحديث عن أثر التعالق النصي والمثاقفة مع الشعر العربي في عصور المختلفة قبل عصر ابن وهبون وسيرته ولاسيما العصر الجاهلي ، ولشعرائه الكبار من مثل : النابغة الذبياني ، والأعشى ، وعنترة بن شداد ، وهو الأمر الذي يؤكد ما ذهبت إليه سلفاً من أن شاعرنا الشاعر الفارس والفارس الشاعر . فأنت تحسُّ أيها القارئ اللبيب لشعر شاعر مرسية وإشبيلية وقرطبة ابن وهبون أن ألفاظ النابغة الذبياني عادت من جديد في هذه المدن ، وأشعرُ صادقاً بصور الأعشى المدحية رُسمت من جديد ولاسيما مع صورة الممدوح ، وبعض أوصاف الطبيعة التي تناثرت هنا وهناك في ديوان هذا الشاعر ولاسيما في أوصافه للنيلوفر والأسطول وللماء أينما جرى ... وغير هاته الأوصاف.

رؤيا التشكيل ،وصورة الممدوح ، والانساق السياقية ، والتشكيل المعرفي ... عناوين آن لها أن تظهر في الدرس الأدبي والنقدي المعاصر وهي تضع نص ابن وهبون الشعري من جديد على مائدة التشريح والنقد والتحليل والحكم .

المعتمد ذلك الأمير الفارس المقدّم عند الكثيرين ، والشاعر المحكم الذي يراودني حلمٌ عريضٌ نرجسيٌ قرمزيٌ في تحقيق ديوانه وصنتعه ونشره من جديد لأسباب أُصرّح بها حين يكون الحلم واقعاً ، والعمل حقيقة بين يدي المحبين العاشقين للأدب الأندلسي والدارسين له في كل مكان ، كان في ذهن ابن وهبون إعجاباً ، وبين أنفاسه الشعرية وألفاظه وصوره ليرسمه لنا كما كان بجماليات تشكيل اللوحة ، وبتمام المعنى الذي يريده المتلقي حين يتداول شعر هذا الشاعر الأندلسي الكبير قراءة وحفظاً وإنشاداً ، ويتأمل بعد هذه القراءة التي لا يُشترط أن تكون مرة واحدة كيف شكّل ابن وهبون شخصية المعتمد وكيف رسمها وكيف نقلها إلينا...؟!

تمازجت مع غرض المديح ورسم صورة الممدوح لهذه الشخصية عند شاعرنا ابن وهبون المرسي مظاهر الطبيعة المتنوعة من المظاهر الحية المتحركة إلى المظاهر الثابتة الساكنة الجامدة ، ناهيك عن وصف مظاهر الحرب ووصف المعارك التي خاضها الممدوح ولاسيما مع وقعة الزلّاقة 479ه / 1086م  الشهيرة في التاريخ الأندلسي والتاريخ الإسلامي . ومع هذي المطاهر برزت الرحلة ومعاناته وصولاً إلى الممدوح ولاسيما مع رحلة البحر التي تعدُّ أصعبَ بكثير من الرحلة البرية وكما يعلم الجميع بذلك . فالشاعر يصف ممدوحه في نص شعري وشكّل لنا بفرشاته الأدبية مشاق هذا الرجل الأمير في تجاوزه البحر وظفره بالمستنجَد به ... فتُجاب دعوته وتحظى بالقبول والنجدة.

ولا أنسى أبداً أن أذكر بالأمكنة الحضرية ووصف ابن وهبون المرسي لها ولاسيما في قصر المعتمد بن عبّاد في حمص (إشبيلية الأندلس) ومن بنى هذا القصر ومن عاش فيه ؟ وكيف خلّده التاريخ أدباً وحدثاً وحضارة وعمراناً ... قبل حادثة الأسر والسبي طبعاً...؟!

هذه النصوص الشعرية المدحية قُربت نفساً من أنفاس الشعر الجاهلي في القوة والفخامة في اللفظ والأساليب والتراكيب ، وتقاربت حسّاً في المشاعر والصور والإيقاع فأبقت على نص ابن وهبون الشعري بتأثيرٍ مباشرٍ حيٍّ ، وبعاطفة صادقة أبت إلا أن تجرَّ مشاعرنا وعواطفنا معها جرّاً إلى تجربته الشعرية والشعورية ، فكان شاعرنا ابن هبون الشاعر المجيد في التشكيل والرسم وحسن التعبير .

الآن ، أغوصُ إلى عمق تلك النصوص وفي بعضها لأوضّح للقارئ والمتلقي ما أردته من المقال من معرفة تشكيل الشخصية الممدوح ، وتمام المعنى مع المديح عند شاعرنا ابن وهبون وهو يمدح المعتمد ويثني عليه ويقدّمه للتاريخ بأبهى منظر وخلق وأدب .

فمن نصوصه الشعرية قوله يمدحه ، ويرسم له صورة مقرونة بالمجد التليد وأي مجد هو ؟؟؟ مجدٌ على سرير الفخر والتنعم والترف فوق المنبر فوق الغمام فوق سماء الصحو الدافئة بالأمل والتفاؤل . ذلكم التشكيل للصورة ورسم الممدوح بما يستحق ، ولإتمام المعنى يسخّر الشاعر ابن وهبون بعض من الحواس والبيان والإيقاع الفخم المطرب الذي يوافق الشاعر ابن وهبون فيما يريد ويطاوعه لما يرسم . يقول الشاعر راسماً صورة المعتمد بن عبّاد من نص شعري مدحي من نصوصه الشعرية المدحية لهذا الأمير :

 بحيثُ أستقلّ المجدُ فوقَ سريرهِ                                    وقامَ لسان المجدِ وهو خطيبُ

سقاك غمامٌ مثلُ ودّي ضاحكٌ                                       كأنَّ سماءَ الصحو منه تذوبُ

وأما عن صورة جواز المعتمد للبحر ووصوله إلى يوسف بن تاشُفين (ت500ه) ، فهي قوة الصوت وبلاغة المعنى معه. إذ يرسم ابن وهبون صورة الممدوح المعتمد عبر هذه الرحلة الشاقة- كما ذكرتُ آنفاً- وهي صعبةٌ في المهام  والطريق غير البري ، كما إنها تحملُ شكوى البلاد والعباد وتجاسر الأعداء على مملكة هذا الأمير ومدينته وقومه وعائلته. الأصوات أولاً في النص الشعري هنا عند هذا الشاعر ، ومن ثمّ الصور بأنواعها وأنماطها ولاسيما مع الحواس ولاسيما مع الصورة السمعية التي انتشرت وتناثرت مع الإيقاع لتلبي طموح ان وهبون في رسم صورة البحر والأسطول الأميري وما في نفوس راكبيه من وجلين وخوفين وجل البحر ورحلته ، ووجل مقابلة الآخر المنجِد وقبوله النجدة والمعونة . يقول ابن وهبون في نصه الشعري المدحي هذا :

عزمٌ تجرّد وفيه النصرُ والظفرُ                                   وفكرةٌ خمدت من تحتها الفكرُ

حملتَ نفسكَ فيه فوقَ داهيةٍ                                     دهياءَ لا ملجأٌ منها ولا وزرُ

عُذرت لو أنّهُ ميدانُ معركةٍ                                     يسمو له رهجٌ في الجوِ منتشرُ

في حيثُ للكرِّ والإقدامِ مضطربٌ                              وحيثُ تملكُ ما تأتي وما تذرُ

عساكَ خليتَ حُباب الماء من زردٍ                            تعوّد الخوضُ فيه طرفكَ الأثرُ

وأما عن المكان الحضري ، ألا وهو قصر المعتمد بن عباد وجوسقه فينشر ابن وهبون المرسي مشاعر الفرحة والبسمة والنشوة حين ندخل مع شاعرنا هذا القصر المنيف الرائع ، ونلحظ تشكيل صورة الممدوح فيه . فكم حوى ويحوي من المآثر وعادات الكرم والجود والمرؤة ! وكم كان في حبٍّ ووئامٍ للآخرين واستقبالهم وإغداق الهبات الوفيرة عليهم بما يستحقون وبما أعطى الله صاحبه من نِعمٍ وخيرات ! وكم كان كبيراً طولاً وعرضاً! يقول فيه شاعرنا ابن هبون:

محلٌ ألبسَ الدنيا جمالاً                                          وإنْ فصح المقاصرَ والخلالا

بناهُ كما بنى العلياء بانٍ                                         يشيد مآثراً ويبيدُ مالا

وللزاهي الكمالُ سناً وحسناً                                    كما وسعَ لجلالهِ والكمالا

يحاطُ بشكله عرضاً وطولاً                                   ولكن لا يحاطُ بهِ جمالا

وعن المعتمد وصورته في هذا القصر ، يقولُ :

وقورٌ مثلُ رُكن الطودِ ثبتٌ                                         ومختالٌ من الحسنِ اختيالا

ولا أنتهي من مقالي هذا - وإن طال عليكم أيها المحبون- إلا وأحدثكم عن الأمير البطل الهمام الثابت قوةً وبطولة في الزلّاقة . ذلك المستنجد المدافع عن الأرض والعرض المعتمد بن عباد .

فجاهلٌ وحاقدٌ وآثمٌ من قال ويقول إن الأندلس ضاعت وفُقدت بسبب الترف والمجون واللهو والطرب والغناء والنساء؟؟؟!!! كيف ذاك وقد قضى المسلمون خمسة قرون من أصل ثمانية من عمر تاريخهم وحضارتهم فيها في جهادٍ وقتالٍ للحفاظ عليها وعلى مدنها وثرواتها ومَن فيها، وكانت ويلات الاستنجاد حاضرة وباقية في مشاعرهم ودمائهم إلى الموت ... المسلمون في الأندلس كان في بكاءٍ وألمٍ وحسرةٍ على ما يضيع من الأندلس ... إلى ضياعها كاملة....!!!

يقول ابن وهبون في رسم صورة المعتمد في هذه الوقعة ويذكر ثباته فيها :

وقفتَ بحيثُ  تلحظُكَ العوالي                                      وهنَّ إلى مواردِها همامُ

ولم يثبتْ من الأشياءِ إلّا                                          شقيقُكَ وهو صارمُكَ الحسامُ

يمانٍ في يدي ماضٍ يمانٍ                                          فلا نأبي الغرارُ ولا كمامُ

ولم يحملكَ طرفُك بل فؤادٌ                                        تعوّدَ أن يخاضَ به الحِمامُ

هذه كانت صورة المعتمد بن عبّاد الإشبيلي في شعر ابن وهبون وفكره وألفاظه وصوره في سبع قصائد كانت العدّة والعدد لنصيب الممدوح من ديوان الشاعر ، ولعلّكم أحببتم الشاعر الأمير الفارس المعتمد من نصوص الشاعر ابن وهبون ، وعشتم تجربة تشكيل جديدة مع شاعر كبير من شعراء الأندلس في عصر الطوائف .