صورة المعتضد بن عباد (ت461 هـ) ومُلكه في شعر ابن عمّار الأندلسي (ت 477هـ)، حواسيّة التشكيل ، بنائية المشهد الشعري.

صورة المعتضد بن عباد (ت461 هـ) ومُلكه في شعر ابن عمّار الأندلسي (ت 477هـ)، حواسيّة التشكيل ، بنائية المشهد الشعري.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة - جامعة الأنبار .

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه أستعين ،

تقدّم الصورة الحسية عند الشاعر الأندلسي الوصّاف المدّاح ابن عمار تشكيلات متنوعة تقوم على التمازج بين المشاعر الخيالية والواقعية من خلال استنطاقها عناصر الطبيعة ومظاهرها المختلفة . هذا التمازج الذي يسخر له الشاعر ابن عمار العلاقات الدلالية في حسن التشكيل والعلاقات اللفظية والتركيبية المتشابكة في جمالية الرصف لمعاني هذه الالفاظ وتقديمها فنياً وبنائياً محكماً إلى المتلقي في كل زمن ومكان .

ولاشكّ في إنَّ الشاعر ابن عمار وشأنه شأن الشعراء الأندلسيين الآخرين يستنطقُ مظاهر الطبيعة وعلائقها الدلالية والفيزيائية والنفسية في رسم صورة المعتضد بن عبّاد ، ذلك الرجل الهمام الشجاع الذي حكم فأحكم ، والذي أمر فأُطيع ، والذي بنى فأعلى ، والذي قاد فأنتصر ، والذي لا يستحق أبداً نهايته الغادرة على يد ابنه ، فانتهت حياته وضاع ملكه ... وحسرتاه؟!

ابن عمار الشاعر المادح للمعتضد بن عباد يسعى في نصوص شعره المدحية لهذا الامير إلى بناء مشاهد حية من الرسم والتعبير كأنك في مسرح تتحاور فيه الشخوص وتتصارع فيه الأحداث ، ويتطور فيه الزمن ، ويتعدد فيه المكان بأنواعه وأنماطه ودلالاته . وهذا المسرح في ذلك الواقع المعيش في زمن الشاعر وممدوحه القائم على الحسد والكره والاختيال والإيقاع بالآخر لنجاحه وقوته وحب الآخرين له وقوعاً غادراً مرّاً آثماً حتى من أقرب الناس ، وهذا ما حدث في الأندلس ومدنها وممالكها وفي حقب مختلفة من عصورها التاريخية المتتابعة مع الخلفاء والأمراء والقواد والشعراء والادباء ... وللأسف الكبير .

المقال هنا سيجمع بين هذه الحسية والبنائية في شعر ابن عمار الموجّه للمعتضد بن عباد ويوثّق فعاله وما قام به في حُكمه ، فضلاً عن أنه سيقدّم لنا الشاعر الكبير ابن عمار بصيغة وصورة أراها جديدة قد تُعجب وتُعجب الآخرون ويتبنون فكرتها في دراساتهم ، فأكون شاكراً لإيفاء هذا الشاعر حقه بدراسة ودراسات جديدة مع الموضوعات النقدية المعاصرة وهي كثيرة ، وفي ديوان الشاعر ما يسدّ هذه الرغبات ويُفضي إلى نتائج طيبة مستملحة بالغة الينع على وفق تلكم الموضوعات .

في الرائية الشهيرة ولعلّها أشهر نصوص الشاعر الأندلسي المدحية عند الشاعر وفي عموم عصر الطوائف الذي وُلدت فيه ،يقدّم لنا الشاعر ابن عمار بنائية جديدة لمشهدٍ شعري تُحدد فيه الابيات الشعرية وتتسع الصور إلى حواسية متبناة من قبل الشاعر في رسم الممدوح وتشكيل صوره أو صورة أخلاقه أو صور أفعاله في الحكم والخير والعمران . وهذه الحواس وظيفتها التزويق والتلوين للنص الشعري مع إنها موجبات في الجسد أي جسد حتى لغير الإنسان ، مع إن وظائفها معروفة وتُعرف وتراسلها بداهة وسلوك ، إلا إنَّ الشاعر ابن عمار كان يصفها صفاً في مشهد شعري ومشهد آخر وآخر ، فأُعجب بها الكثيرون وتناقلوها شفاهاً ومضموناً وآثروها بالتناص ولاسيما في تناصية اللفظ والصورة والأفكار .

في مشهد شعري عند هذا الشاعر ابن عمار كوّن من خمسة أبيات شعرية أقتطعها من هذا النص الأدبي الشعري المميز ، نرى الشاعر يبني هذا المشهد على حواسية مطلقة ولاسيما مع الصورة البصرية من خلال التقاط المشاهد الساحرة للطبيعة وإيداعها ودلالاتها للممدوح ، كذلك من استنطاق الألوان ومدلولاتها في إظهار الصورة الحسية البصرية الملتقطة في جمال الطبيعة الأندلسية ومظاهرها الخلابة ولاسيما مع الطبيعة الحية المتحركة .

يقدّم الشاعر ابن عمار في المشهد الشعري الذي اتبناه في التحليل والنقد الطبيعة التي رأها وسمع بها وعاش في بعض تأثيراتها في شلب أو مرسية أو إشبيلية ، احساسات بالجمال تترى الى الشاعر ونصه الشعري من كل مسلك وسبيل . يقول الشاعر ابن عمار في مشهده الشعري هذا في المعتضد بن عباد ومدحه ورسم صورته التي عرفها ويريد نقلها إلينا :

قدّاحُ زنادِ المجدِ لا ينفكُّ من                        نارِ الوغى إلا إلى نار القرى

يختارُ إذ يهب الخريدةَ ناعباً                       والطرفُ أجردُ والحسامُ مجوهرا

أيقنتُ إني من ذراهُ بجنةٍ                           لمّا سقاني من نداهُ الكوثرا

وعلمتُ حقاً أن روضه مخصبٌ                   لمّا سألتُ به الغمامُ الممطرا

يا سائلي ما حمص إلا خاتمٌ                       أبصرت اسماعيل منهُ الخُنصرا

المشهد الشعري – ويسمح لي عشّاق الأدب الحديث ودارسوه – قام على الحواسية في الرؤيا والتشكيل لشخصية الممدوح المعتضد الرؤيا المشاهَدة المبصرة لهذا الجمال في الطبيعة ومثالها الجمال في الممدوح صورة وصوتاً وفعلاً .

         ونرى الشاعر ابن عمار الأندلسي في مشهد شعري آخر ، وهو مقطوعة في بنية النصوص الشعرية التي نظمها ابن عمار وأباح من خلالها عن مكنون أفكاره لا تزيد على ثلاثة أبيات شعرية يردُّ على من أدعى إنه بخيل ! ووصف نفسه ومَن معه بالعبيد ولعلّه يصدّق ذلك ويؤمن به ويريد ممن حوله أن يؤمنوا به؟!

الشاعر الأندلسي الكبير ابن عمار ربتما خدعنا بمدحٍ يشبه الذم في أول أبيات هذا المشهد الشعري ، والحواسية كمنت في الحاسة الشمية بــــــــ (نفحة) ، وكذلك وُجدت بتلميحات دلالية للغصن أو الأغصان أو الأيكة في المنبت والميل حركة وجمالاً . وهو ما يوثق لدى شاعرنا الحاسة الباصرة أيضاً ، ووظيفة البصر مع الفن والخيال في التشبيه الضمني في آخر بيت شعري من هذه المقطوعة ، و يا له من مسك ختام في فتق الذهن للتأمل والذهاب إلى موطن التأويل وكشف سحر الخيال وأظنُّ أن شاعرنا متمكن من صنعته في استنطاق الحواس وبناء المشهد في هذه المقطوعة المنمقة في اللفظ والصورة والصوت والتي يقول فيها للمعتضد بن عباد :

إنا عبيدُكَ أو يقولُ مصدَقٌ                          الحقُّ مذمومٌ وأنت بخيلُ

أترى القبولَ سرتْ إليك بنفحةٍ                     مما أدعته فكان منكَ قبولُ

وهل استمالكَ ثنائي عاطفٌ                       إنَّ الكريمَ إلى الثناءِ يميلُ

وفي مشهدٍ شعري آخر عند هذا الشاعر الأندلسي الكبير ، يقدّم لنا في الشاعر ابن عمار مشاعر الكوى وقلق الذات وقمة عواطفه المتشنجة أمام الآخر الممدوح (المعتضد) ، وللشاعر نصوص شعرية سابقة يبرر فيها هذه الشكاية وما يقدّم من النصح والارشاد لتفادي هذا القلق وتجاوزه إلى المرح والاغتباط والاسعاد ولا سيما مع قرب هذا الممدوح والحظوة بنواله وكرمه .

المشهد الشعري في هذا النص تكوّن من أربعة أبيات شعرية فيها الحواسية تتابع إلى المتلقي لترسمه له صورة الممدوح وهو صورة الشاعر في معادل موضوعي قام على براعة التشكيل وقوة اللفظ والايقاع ، أمام الطبيعة الاندلسية بدلالاتها ومظاهرها ووظائفها ليشكل بهنَّ هذا الأمير في مشهد شعري مصوَّر وكأنه أُقتضب من طبيعة لطبيعة أخرى ومن مكان لمكان آخر ... أما الممدوح فكان هو النص وهو مدار الحواس وهو غاية الشكاية والقلق ، وهو الروض والبدر والآفاق والرشا... وكل شيء يمكن أن يكون جميلاً نضراً في هذه الحياة . يقول شاعرنا ابن عمار في صورة المعتضد كما رسمها في مشهد شعري في أحد نصوصه الشعرية المدحية لهذا الأمير :

غصنٌ ولكنَّ النفوسَ رياضُهُ                        رشأ ولكنَّ القلوبَ عرارُهُ

سخرت ببدرِ التمِّ غرته كما                         أزرت على آفاقهِ أزرارُهُ

ما زال ليلُ الوصلِ من فتكاتهِ                      تسرى إلي بعرفهِ أسحارُهُ

ويجودُ روضُ الحسنِ من وجناتهِ                   دمعي فيندى رندُهُ وبهارُهُ

هذه كانت الحواسية في شعر ابن عمار والمشاهد الشعرية في البنائية التركيب والدلالة في مدحه للمعتضد بن عباد ، مع المكان الطبيعي ، مع الحواس في التعبير ، مع البناء كان محسناً فيها ، ولعلّي كنت محسناً فيما ذكرتُ أيضاً... ومن الله التوفيق ، والحمد لله.