توقيعات علي المصلاوي بين سحر المفارقة وتوهيمة الحدث ، قراءة نقدية في (سلسال الماء والشعر)

توقيعات علي المصلاوي بين سحر المفارقة وتوهيمة الحدث ، قراءة نقدية في (سلسال الماء والشعر)

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة - جامعة الأنبار .

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه أستعين ،

يجذبُك هذا الرجل بسحر ألفاظه وعباراته وشدّة أدبه واحترامه للآخرين . ويجذبني فيه أيضاً الهدوء الذي ينماز به حتى في أصعب المواقف التي تمرُّ بنا وأحياناً تحتاج إلى غضب إجباري انفعالي نتيجة سلوك مغلوط أو تصرف مسيءٍ إلينا أو إلى الآخرين من أبناء جلدتنا وخارجها، أو ربما إلى المنهج أو الكتاب وما فيه . ومما يجذبني فيه أيضاً حبه للعلم والتعلم وللأدب والتأليف في هذا الأخيرة في الدراسات العلمية والأبحاث المحكمة الرصينة وأخيراً في نظمه للشعر من قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر أو النص الأدبي المفتوح ، وهو لما يزل ينتج في هذه الدراسات النقدية المعاصرة ، ولما يزلْ ينظم في أجناس الأدب المعاصرة أيضاً ، ومنها توقيعاته التي أخصُّ الحديث عنها نقداً وتحليلاً في هذا المقال - إن شاء الله تعالى - .

في مؤتمر جامعة كربلاء العلمي الدولي الثاني ، وعلى رحاب قاعات كلية التربية للعلوم الإنسانية وبين أروقتها شاركتُ- والحمد لله- ببحث علمي أظنه نال المحبة والإعجاب كثيراً من قبل القائمين على المؤتمر ووقائعه وجلساته العلمية المباركة ، أو من قبل المشاركين معي من الباحثين العلماء الاجلاء الفضلاء من جامعات العراق المختلفة ، رعاهم الله ووفقهم لخدمة العلم وأهله. وكان الاستاذ الدكتور الناقد الأديب الشاعر علي المصلاوي رئيساً للجنة العلمية التي تخصُّ بحوث اللغة والأدب المقدّمة إلى قسم اللغة العربية في الكلية المذكورة ،  والتي كان بحثي من ضمن هاته البحوث التي نوقشت في هذه الجلسة ، سرعان ما بادر بالسلام والتحية والسؤال عن الاهل والاحباب والزملاء في محافظتي ومدينتي وجامعتي وكليتي فكان على ما عُهد فيه من اللطافة ودماثة الخُلق وحسن الأدب ، وسرعان ما بادر إلى رحلته ليأتيني بهذه التوقيعات الشعرية النثرية السردية التي صدرت له والتي عنونها بــــ : ( سلسال الماء والشعر )، فكان وفاءً مني بعد قراءتها مرة وثانية وثالثة أن أقدمها للمتلقي من جهة المفارقة وأنوعها والحدث وما فيه من توهيمات وسخرية تجمعه من جهة المضمون والشكل مع المفارقة في هذه السطور ، فهو – المصلاوي- مع ديوانه الذي سيصدر قريباً بعد هذه التوقيعات يحتاجان إلى دراسة أكبر وجهد أشمل لأن فيهما ما يستحقان ويستحقان .

التوقيعات جنس أدبي عُرف في نثر العصر العباسي – تقريباً- جنساً أدبياً نثرياً مميزاً اعتنى به الخلفاء والأمراء والقوّاد في كتاباتهم الرسمية ، وكانت هذه التوقيعات عبارة عن ألفاظ مختصرة وعبارات أدبية مركزة وربما خفية يريدها صاحب التوقيع أنى كانت نشأته وأنى كانت وظيفته .

والدكتور المصلاوي وهو أستاذ الأدب العباسي والأندلسي في الكلية التي ذكرت عرف جداً كيف ينظم في هذه التوقيعات ، ويعرف كثيراً جداً كيف يجعلها في بوتقة التأثير إليها تسعى القلوب بعاطفة ضاحكة باكية ، وبها تتغنى المشاعر بقرب بعيد ، وحزن دافئ بارد لتحرك سكون الذات والآخر فلعلّه يحسُّ كما أحسستُ حين قراءتها وقراءتها وقراءتها...

توقيعات المصلاوي هذه مفتوحة العنوان إلا من العنوان الرئيس وهي متسلسلة بنقاط مرقمة مرتكزات علاماتية للولوج إلى كل لوحة من لوحات هذه التوقيعات الشعرية النثرية معاً. وفيها موضوعات عدة فمن موضوعاتها ، مثلاً: حماقات بعض بني البشر ، ومنها واصفات للطير والحيوان ، ومنها اغتراب الذات ، ومنها العشق المزيف في النكبات ، ومنها الحب الكاذب ، ومنها صفات الإخوان الأوفياء في الغدر ، ومنها الأصدقاء المقربون من الحسد والكره... وما إلى هذه الموضوعات التي تجمع في أصل نظمها وأساليب كتابتها المفارقات بأنواعها ودلالاتها مع الحدث بأنواعه ودلالاته والذي غالباً ما يأتي مع الفعل المضارع والجملة الفعلية ، ويُرسم ببعض فنون البيان والبديع والحواس التي صبغت هذه التوقيعات بصبغة جمالية لا تملُّ ولا تُترك من القراءة والإعجاب والإحسان .

في لوحة توقيعية من لوحات التوقيعات ذات الرقم (1) نرى المصلاوي يجمع بين سحر المفارقة والحدث الذي يفعله الفعل المضارع الجماعي من الفعل والفاعلين. وهذه المفارقة تتمثل بالصحو في الحياة في العمل في العلاقة وجمالية هذه المسميات التي تحتاج فعلاً إلى قلب كبير لفهمها ومعرفة نوايا أصحابها ومبتغياتهم . يقول المصلاوي في لوحته التوقيعية هذه:

الصحوُ جميلٌ

نحتاجُ لقلبٍ

كبيرٍ لنفهمه ...

ويؤكد المصلاوي في اللوحة التوقيعية التي تأتي بعد هذه اللوحة مباشرة أن الماء – الكرامة والعلم والأدب- يباع في هذا الزمن وأن الغيوم – المحبون الدائمون بالوفاء والعمل- يستحيون من هذا البيع ، مفارقات تجمعها الأفعال التي ترسم الحدث الهازل البعيد عن الخلق والذوق وحفظ إبداع الآخرين :

حين يباعُ الماءُ بثمنٍ

تستحي الغيومُ...

وأما في التوقيعة الشعرية النثرية ذات الرقم (2) ، ينحو المصلاوي منحى ً آخر في رسم المفارقة الضدية عبر مظاهر الطبيعة الحية المتحركة (الحيوان) ، وعبر الحدث الحكاية التي تجمع هذا النوع من المفارقة في حوار متخيل غايته الترميز إلى البشر التافه مع البشر الراقي المتحضر المتعلم المثقف ، ومع أسفه المُلمح وأسفنا الصريح كيف علا بعض البشر على بعض بلا مسوغٍ أو مبرر وهؤلاء ممن لا يستحقون هذا العلو أبداً... أبداً...:

صعدتْ الدجاجةُ

أعلى الشجرة

لتحكي للعصافيرِ

أحلامها

وهؤلاء همُ همُ  في التقدير والحكم والتزكية حتى وإن كانوا ديكة في توقيعية شعرية لدى المصلاوي حملت الرقم (4) ، والذي أجبرنا أن ننعتهم بالديكة هو نوم المبدعين وتراجعهم وتقهقر أعمالهم الإبداعية المميزة في الدرس والتعليم والتأليف والتحقيق والنظم والكتابة .

بعضُ الديكةِ تلحُّ بالتنبيهِ

وبعضُ البشرِ يلحُّون بالنومِ

والكسلِ...

 ولاشكّ في إن الجناس الاشتقاقي بالفعل ( تلحُّ ويلحُّون) والتكرار في مفتتح الشطر من التوقيع أضاف ضربات إيقاعية محببة لتشكيل التوقيعة ورسمها ورسم صوت هاته الديكة وصوت الاغراق في النوم من بعض الكسالى ، والمفارقة جامعة بين الأثنين في الصوت والدلالة والتعبير.

وفي توقيعية شعرية أخرى من توقيعات (سلسال الماء والشعر) وهي التوقيعة ذات الرقم (5) نرى شاعرنا وأديبنا المصلاوي في لوحة شعرية نثرية يخبرنا عن ماهية الالوان المضمرة في اشارات المرور وهي تعمل بسعادة على الرغم من تقيأ الشوارع بالزحام من المركبات والمارة والرحلات ... وللشوارع يا له من يومٍ ومن أيام لا تفرغ فيها هذه الشوارع ولا تكلُّ تلك الألوان عن العمل؟!؟!

الشوارعُ تتقيأُ بالزحامِ...

ألوان الإشارات

سعيدةٌ بالعملِ...

هذي الألوان وإن كانت مضمرة إلا إنها معروفة في الشكل والخصوصية والعمل في هذه التوقيعة الشعرية ، ونراها صريحة ضدية واضحة في توقيعية شعرية أخرى تجمع بين مفارقة السواد والبياض في اللون والشكل في سحر هذا النوع من المفارقة وقربها إلى النفس البشرية ، وكذلك في حدث يحدث دائماً من هذا الحيوان الجميل الأليف المقرّب إلى نفوس البشر وبيوتهم .

والدلالة أبعد في إتهام البريء من الناس في هذا الزمان ، وإظهاره بظهور العادي الآثم بلا سبب ، وإنما ... وإنما ... وإنما ... :

نامَ القطُّ الأبيضُ

على فحم جيراننا

فتوجّهتْ أصابعُ الاتهامِ

إلى الفحمِ!!

وأحياناً يكرر الدكتور علي المصلاوي نظرته إلى هذا البشر التافه الساذج من خلال حيوان أخر وهو طائر في توقيعية شعرية أخرى ، الفراشة إن كانت بلا جناحين ماذا ستكون ؟! وكيف ستكون؟! وهل سيحبها البشر؟! في التوقيعة الشعرية النثرية ذات الرقم (10) يستنطق شاعرنا وأديبنا المصلاوي المفارقة الدرامية التي تستند إلى الطبيعة ومظاهرها في تلكم الفراشة وما فيها من أبعاد يريدها لمنغصات الحياة مع مثل هؤلاء البشر :

لولا جناحاها ...

الفراشةُ دودةٌ عابرةٌ ..

ومثل هذا الاحساس ومثل هاته المشاعر تؤكد وتؤكد من قبل الشاعر والاديب المصلاوي في لوحة توقيعية شعرية جديدة من توقيعاته الشعرية في (سلسال الماء والشعر) ، وهي التوقيعة ذات الرقم (11) يستظهر فيها المصلاوي الضفدع وجموده في مكان ، وشيوع هذا الجمود عند باقي الحيوانات وعند البشر. فمثله مثل ذلك المغرور الذي لا يغادر مكانه أبداً ويظنّ بغروره أنه كبيرٌ وأكبر من الآخرين  وهو الضعيف الجامد الراكد هناك في بركة تعرف بأنها......:

المغرور يسبحُ

في كل اتجاهٍ

ضفدعُ الماءِ لا يغادرُ بركتَهُ...

وأما عن المفارقة اللفظية وتوهيمة الحدث فيها فجاءت عند الشاعر المصلاوي في بعض توقيعاته الشعرية النثرية هذه ، ولا سيما توقيعاته الشعرية الأخيرة من مثل التوقيعة التي حملت الرقم (15) وفي لوحتها الختامية وهي تتحدث عن اغترابه في وطنه وبين لداته وأترابه ، كيف سيهاجر منه إليه هجرة محمودة طيبة الذكر بالعلم والعمل والابداع :

وأنا في وطني

مهاجرٌ منه إليه

وبعد فهناك الكثير الكثير من المفارقات المرتبطة بالحدث وأنواعه كلها قامت على لغة شعرية رائقة مكثفة أدت الموضوع وأباحت عن كنه مشاعر الذات وما يعتليها من مشاعر نفثتها إلى المتلقي بيسر وإحكام في المضمون والإيحاء أحياناً والتصريح أحياناُ أخرى . كان الدكتور المصلاوي موفقاً وبارعاً إلى حدٍّ كبير في توقيعاته هذه لغة وصورة ودلالة وإيقاعاً . ديوان شعري نثري آخر يضاف إلى المكتبة الشعرية الأدبية العراقية المعاصر بأنواع الامتيازات كلها ... ونطمع في مزيد.