رحلة الشاعر.

رحلة الشاعر.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة – جامعة الانبار

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين ، والحمد لله في الدارين والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله وصحبه الغرّ المنتجبين ، وبعد ،

كنتُ سعيداً جداً حين أصدر الشاعر المجد الخلوق في اللغة والألفاظ والتعامل صديقي وابن مدينتي الأستاذ عامر  حسين خبيب ، إذ هو تجربة مهمة وكان الواجب عليه أن يقوم بها منذ سنوات من عمره الأدبي الذي نظم فيه أجمل قصائده ، وهو يعبر  بهذا الجمال عن مشاعره وتجربته الشعورية في مواقف وأحداث مرّت به ومرّ بها مكانه (مدينته) وبلده وطرف من أسرته ومكونه العائلي.

رحلة الشاعر هو هذا العنوان الذي انفتق على عناوين عدة داخل جسد القصائد التي قرأتُها لشاعرنا العامر  وحاورتها في هذا المقال محاورة نقدية أولى - تعريفاً وتنضيراً وإفهاماً- للقارئ الكريم ، وإلا ففي الديوان الكثير من الدراسات أو لنقل إنه صالحٌ لكثير من الدراسات في الجوانب البلاغية والنقدية الحديثة والمعاصرة بحسب منهج الدراس فيها ، فضلا عن الجوانب الفنية وميزات البناء الفني وادائها .

في عتبة العنوان الرحلة عُرفت عند الشاعر العربي قديماً وحديثاً وعند الدارسين لأدب الرحلات أيضاً من القدامى والمحدثين ،  غلاف الديوان سيمائياً يدل على دقات الساعة وتسارعها لنهاية العمر عند أي إنسان ، والالوان القريبة إلى لون التراب كانت رصداً محسناً لذلك التسارع والتقارب إلى النهايات المحتومة ، زد على ذلكم العناوين الفرعية لقصائد الديوان التي كانت عوناً جداً في ترجمة العنوان الرئيس – العتبة الأولى إلى واقع النهاية المحتوم المتوقع ، وإلى زوال أكثر عمر الشاعر في غربة وألم وأوجاع وأحزان ، ولعلّ من عناوين تلكم القصائد مثلاً :

-          أطلال.

-          أسود الوطن .

-          دمعة على بغداد .

-          منازف .

-          أشلاء .

-          هجرة النوارس.

-          سورٌ تداعى.

-          ترنيمة الرحيل .

-          كان لي وطن!

فيما يخصُّ الموضوعات التي مشت إليها قصائد الديوان في (رحلة الشاعر) للشاعر عامر حسين خبيب ، فلقد كانت على وفق الآتي :

-    الموضوعات الذاتية (الوجدانية ) ، ولو أغلب الشعر  وجداني وبوح ذاتي كما يقول النقاد أجيالاً بعد أجيال ، إلا إنّ هناك عمقاً في الدلالة على الذات الباكية الحزينة من هذي الموضوعات والأغراض عند الشاعر المجد عامر حسين ، فهناك الموضوعات التي تتحدث عن الوطن – العراق ( المكان الأم) ، وهناك الموضوعات الأسرية العاطفية حادة المشاعر جداً ينزف منها دمٌ أبكانا جميعاً لفقد الأم والأب وما اعظمهما من فقد وفقد .

-    الموضوعات الاجتماعية ( الخارجية) ، وهي التي تتعلق بحب المجتمع أو نقده أو تسجيل حالات معينة فيه ، وهي تقرب إلى مشاعر عامة البوح والبثّ والتفكير ، ومنها قصيدة الشاعر الوشم ، ومنها قصائده التي تدلّ على ذكريات المكان والشباب والأهل الراحلين والأتراب الذين فقدهم وبكى لفقدهم أيضاً من أيام الدراسة أو السفر أو المعيش أو الجيران والخلان ، ومن تلكم القصائد في ديوانه أشلاء ، ودربي الشقي وقصة العمر .

وفي هذه القصائد كلها نشمُّ رائحة الغربة والحزن العميقين في الذات وما تريده من طرحٍ لمشاعرها المتألمة الباكية هنا .

-    الموضوعات الدينية ( العاطفية)،  وللشاعر عامر حسين قصيدة مولدية في مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وهي عاطفية خاصة ، ومفرحة بامتياز ودلالة لمولد سيد الكائنات وفخر الثقلين ، وأفضل أهل الأرض والسماء( صلى الله عليه وسلم).

ذلكم كان حديثي عن عتبتي  العنوان الفرعية والرئيسة في ديوان الشاعر عامر حسين وعن دلالة الغلاف السيمائية وكذلك عن موضوعات الشاعر وأغراضه الشعرية في ديوانه الأول ( رحلة الشاعر)، وإذا فتشت عن السمات الفنية وخصائص بناء النص الفنية وجدتُ الشاعر العامر عامر يحاور القصيدة وبعض القصائد طويلة نسبياً وفيها لوحات عدة ويلحّ على إيثارها في البناء والنظم على النتفة أو المقطوعة ، وهو ما شهد له بطول النفس ومحاورة طيبة للبحر الشعر وقافيته ورويه في أغلب قصائد ديوانه الأول هذا .

أما عن العاطفة فكونت مع الصور الفنية التي انتشرت بزهو الألوان والبيان وبعض من الحواس وتراسلها حزناً وشكت ألماً عرفهما الشاعر في حياته ومن ثم في شعره ، وهو ما اسلفتُ القول فيه في حديثي عن أغراض الشاعر وموضوعاته في ديوانه هذا .

ولم يبقَ لي إلا أن نحلل بعض قصائد ديوان الشاعر  عامر حسين لنضع القارئ أمام ما ذهبنا إليه قولاً وتعريفاً وله الحكم والفصل أولاً وأخيراً.

في قصائده الشعرية التي أوجعنا ببكائه عن وطنه يقول من قصيدة شعرية عنونها (أسود الوطن):

فيا لهفي على وطن تراءت                               به الويلات واندفعت حشودُ

أرى الاشرار في افقي ودربي                           وفي صوري لها عدٌّ عديدُ

فيا وطني العراق أرى أغتيالي                          بأشلائي وليسّ لهُ حدودُ

ويا روحي إذا أرخصّت روحي                             إذا صرخ الشهيدُ جثا شهيدُ

إن المقطع الشعري هذا ليبوح عما يجتلي الذات من مشاعرة حزينة دفينة في عمقها وهي تتحدث عن وطنها وما حلّ فيه وما يحلّ فيه ، الألفاظ باكية تقدّمها النداء الملمح الأسلوبي النحوي التركيبي ليعمق فينا هذه الصيحات على الاغتراب وعلى البكاء العالي والصراخ على وطن بيع من قبل الاشرار والظالمين والحاقدين.

أيضاً هناك الضربات الصوتية الإيقاعية الداخلية في التكرار بالحرف أو الكلمة ، والجناسات الاشتقاقية والتامة للكلمتين زادت من توتر الشاعر وقلق ذاته وهو يحدثنا عن فواجع في وطنه... وفي باقي مقاطيع قصيدته هذه مزيداً من مشاعره هذه ومزيدا.

وأما في قصيدته الشعرية التي عنونها (دمعة على بغداد) فهي تذكرني بقصيدة رائعة في العنوان نفسه لشاعر الحديثة الأول كمال عبد الله الحديثي ، والقصيدتان كلاهما ينزفان بكاءّ ودماً على ما يقع في بغداد عبر العصور والدهور . يقول الشاعر عامر حسين في قصيدته عن بغداد وحزنها :

أوقد خطاي وته بخمر بناني                   وإليك ما غنّت به الشفتانِ

تتراقص الكلمات بين أضعالي                وتسيل من لهوي ومن اشجاني

أوقد على جمري لحون مآتمي                وانثر جراحاتي على جدراني

المقدمة الافتتاحية تبوح بالحواس واطعمتها وأشربتها وتأتي حركية الصورة مع الالفاظ والكلمات لتضعنا في نشوة حقيقية من الفرح المحزن حين يحدثنا الشاعر عامر حسين خبيب في قصيدته الشعرية هذه في تعالقات نصية مع الشخصية ومع المكان ومع الأحداث عن تاريخ بغداد الزاهر وكيف غدت اليوم؟! وعن أثرها العلمي والفكري والحضري وكيف هي اليوم؟! يقول الشاعر عامر في مقطع آخر من قصيدته الشعرية (دمعة على بغداد):

من الف ليلة قاربي شق البحور                   مجلجلا أسفاره تهواني

ومضى يذر رماد حبي أينما                         ردّ النسيم مدامع الحيرانِ

هل شهرزاد سلتْ ولم تشفقْ على               قلب يفيض مدافعاً حراماني؟

مقطع آخر في الحزن ورحلة أخرى إلى تاريخ هذه المدينة الذي لا ينسى وكيف ينسى؟! ويقول في مقطع شعري آخر من قصيدته هذه :

ومتى أرى خيول الرشيد تزاحمت                    في ساحتي لترد جور زماني

بغداد سلّيني بوقد مدامع                            هي سلوتي إني خسرت رهاني

قد قطعوا نخلي وصبحي والهوى                  والليل مر ولم ترقّ قياني !

هكذا هي التعالقات النصية مع الماضي والتاريخ المزدهر والتغني بتلكم الأمجاد الإسلامية العربية ، وأين نحن منها يا بغداد ... يا عراقُ ... يا عربُ اليوم؟؟!!

أما الشاعر العامر عامر  فهو لا يملّ ولا يخضعُ للذل والصغار مهما كانا ومهما بلغا . وهذا ما يحدثنا عنه في خاتمة قصيدته الشعرية هذه في أبياته :

سأعود يا بغداد ريحاً عاصفاً                             أطأ المجاهل احتوي أزماني

سأعود يا بغداد أروي قصتي                              بعد الضياع المر والخلانِ

والقلب لا تشفيه إلا روضة                               في المنحنى والشط والوديانِ

وأرى العراق يرفّ في لألاته                            أحلى سنا لو يزدهي القمرانِ

وهذه القصائد التي تمتزج بالبطولة الشخصية وتحدي الصعاب أمام الظالمين الحاقدين اللصوص - على حد تعبير الشاعر في قصائده الشعرية- تمحورت وقصائد أخرى في ديوانه الشعري كلّها تتحدث عن المكان (الأم – الوطن) وكلها بهذه المشاعر والفنون في الرسم والتشكيل والتعبير .

أما عن الأغراض الذاتية الأسرية فله قصيدة في أبيه وفي أمه ، وفي الأخيرة نظم ما لا يمكن إلا حفظه وإلا تناقله ، كيف لا وهو من فقد هذه الأم صغيرة ، ومن زالت عنه النعمة بقدر الله ، يقول في قصيدته الشعرية (أمي):

صورٌ تطاردني وبوح عيوني                            يشقى ينازلني بنوح لحوني

جارت فأعلنت الهزيمة وانقضت                     صور المداد ولم تعد تعنيني

ومنها عن ذلك البكاء والنحيب لما آل إليه هذا الفقد من وجع في الحياة وإشكاليات في المجتمع ، ولاسيما في مجتمع الشاعر وقومه . يقول في مقطع شعري آخر من قصيدته الشعرية هذه :

وبكيت حتى لا بكاء يرودني                     ليت الدموع حنت على المسكينِ

وارى النحيب قصيدة محرومة                  من فيض احلام الهوى المطعونِ

انا نوحُكِ المسكوبِ في درب الاسى            وخطاي شوك بعد زهر غصوني

اغمضت عيني بعد غيبة زهرة                     يا زهرتي عودي ولا تخزيني

وهيهات الإياب أو العودة ...؟؟؟ شكراً لمشاعرك أبكيتنا وأطربتنا في آنٍ معاً... واللهِ.

وأما عن الأغراض الشعرية في شعر الشاعر عامر حسين فأوضحتُ للقارئ الكريم أنها كانت في قصيدة شعرية في مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم) وهي لا تخرج عن الفخر برسولنا الأكرم ، وتعداد مناقبه الشريفة بصور  زاهية ورسم قشيب من المناظر والالوان في مثل قوله من قصيدته هذه وعنونها (ميلاد الندى):

على ترابك تغفو كل اوردتي                      ومن سنائك إني اليوم في حرمِ

ومن شفاهي يسيل الناي حلو دمي           تموج ابحر شعري من ندًى عممِ

وهكذا هو  النص الشعري في المولد النبوي عند شاعرنا عامر حسين خبيب حافلٌ بتاريخ الانتصارات الإسلامية ، متعالقاً نصاً ومضموناً وألفاظاً مع ميمية البوصيري الشهيرة في المدائح النبوية في الأدب العربي، خاتمتها خاتمة مقالي هذا ....

لك الشفاعة ادركني بها فلها                  أتيت أحملُ أحلامي على ألمي

مباركاً للشاعر العامر عامر ديوانه الأول هذا ، ولمزيد من التفاؤل والودّ لك... لك وحدك.