أولى لك فأولى أهو تكرار أم إعجاز؟

أولى لك فأولى أهو تكرار أم إعجاز؟

أ.م.د. أحمد جمعة محمود الهيتي

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية/حديثة – جامعة الانبار 

سؤال يأخذني إلى قاعة درس التعبير القرآني في كلية الآداب من جامعة بغداد في سنة 1997م، حيث كنا يطبق علينا الصمت ونحن نستمع إلى علامة العراق والوطن العربي الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي، الذي ماانفك يتحفنا بنفائس كلامه في الإعجاز البياني لكتاب الله العزيز، وعلى الرغم من أن أسماعنا تأبى أن تضيع حرفا مما يقول لكننا في الوقت نفسه ملزمون بكتابة كل ما تجود به عبقرية هذا الجبل الأشم كوننا طلبه في المرحلة التحضيرية للدكتوراه، ومما شق أسماعنا جميعا للمرة الأولى وقوفه عند قوله تعالى: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)، وكنا نقف عند هذا التكرار بحدود كونه أسلوبا عرفته البلاغة ليفيد التوكيد، لكن ما بدا لنا أن الأمر أوسع من ذلك بكثير، فـ (أولى) التي تعني (ويل) لم تكن لتقع في هذا الموضع لولا ماحملت من شدة زادها شبه الجملة (لك) الذي حوى ضمير الخطاب (الكاف) مؤذنا بأن التهديد والوعيد على أشده، وهو لم يكن بأسلوب الغيبة الأخف الوارد عندما كان الوعيد بحق ضعفاء الإيمان من المسلمين لكونهم مسلمين يرجى لهم التوبة ولكون رحمة الله ستسعهم يإذنه تعالى، وهو قوله تعالى: (ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأوْلى لَهُمْ)، والعربية تعرف أن أسلوب الخطاب أشد من غيره، وقد برهن ذلك رد الخضر على سيدنا موسى عندما طلب منه ان يعلمه كما امره الله في سورة الكهف؛ إذ لم يصل الحنق عند الخضر من أسئلة سيدنا موسى إلى مداه، فقال له :( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، لكن الضجر عندما بلغ مداه من تكرار الأسئلة على الرغم من طلبه منه أن لايسأل وجدناه يخاطبه بزيادة (لك) التي تؤذن بالشدة؛ فقال: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)

 ثم يأتي الفاء وثم ليلفتا الأنظار إلى أن ثمة أوقاتًا في هذا الوعيد؛ إذ الويل الاول للمهدَّدِ في حياته الدنيا والثاني في ساعة موته والثالث في برزخه والرابع يوم القيامة، ومن التعقيب الذي يفيده الفاء إشارة إلى ان التهديد الثاني وقع بعد الأول من غير فاصل زمني وهو ليس الأول نفسه، وهو وصف حقيقي للحياة والموت اللذين لايفصل بينهما زمن، فالموت هو لايتعدى أن يكون نفَسًا يخرج ولا يعود، فحق للفاء ان تكون العاطف بينهم:

فبينا يُرَى الإنسانُ فيها مُخبِرا    حتى يُرَى خبرًا من الأخبار

غير أن الانتقال من وجه الأرض إلى باطنها يحتاج للجسد أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، وكل ذلك يحتاج وقتا؛ فجيء ب(ثم) لتصور المشهد من جانبين، الأول أن التراخي موجود للفاصل الذي اقتضته الأعمال التي ذكرت، وهو ذا المعنى الذي لاتحققه إلا هي، وثمة معنى آخر جيء بها لأجله، وهو أن العرب يعلمون ان المعطوف ب(ثم) أشد من المعطوف عليه بها، فهم يقولون: (أعجبني فعلك أمسِ، ثم الذي فعلت اليوم أعجب)، وهو عينه الذي حصل؛ فقد قامت قيامة الذي مات وماأدراك ما يوم الدين على الكافر، فأنى لغير (ثم) أن يأتي بالشدة المضاعفة على المهدَّد، فها نحن أمام أربعة أوقات وليس الوقت واحدا حتى يكون التكرار للتوكيد، فهو تهديد بالويل لهذا المشرك وهو حي والويل له وهو ميت والويل له وهو في البرزخ والويل له يوم القيامة، فما صنع التكرار من إعجاز؟ وهل هو للتوكيد ؟ فقط كما يقولون؟ كلا، فالكلام بعد التمحيص أظهر غير ذلك، وكتاب الله أوسع مدى من أن يحصر بأسلوب واحد، وكيف لا وهو الفصل ليس بالهزل، والحمد لله رب العامين.