أديب من مصر في القرن الخامس الهجري.

أديب من مصر في القرن الخامس الهجري.

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة - جامعة الأنبار

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين ، والحمد لله في الدارين والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله وصحبه الغرّ المنتجبين ، وبعد ،

علي بن محمد بن احمد بن حبيب القليوبي ، وهذا اسم أديبنا ومَن نتحدث لكم عنه وعن ظرافته ونظمه الشعر في مقالنا هذا . وهو من مصر من القليوبية ، إحدى مدن مصر السفلى ( وحاشا لمصر وأهله أن يكونوا من السفلى )، وإنما قصدت من مدن مصر السفلى من الوجهة البحرية كما يذكر له مترجموه  ومَن كتبوا لنا سيرته وطرفاً من حياته ووظائفه ، وجادوا بشيءٍ من أشعاره التي يبدو أن جلَّها قد ضاع وأتت عليه عوادي الزمن البغيض وللأسف الشديد.

هو القليوبي شاعر وكاتب ، كان كاتباً في أيام حكم الدولة الفاطمية في مصر ، أدرك الحاكم العزيز العبيدي ( ت 370ه) ومدحه ومدح قواده وكتّابه. وشهد أيام الحاكم أيضاً ولحق أديبنا وشاعرنا القليوبي  مدة يسيرة من أيام الظاهر  علي بن منصور (ت 427 ه )   وقيام دولته التي توفي شاعرنا وكاتبنا  في أوائل أيامها في سنة 412 ه ، كما تواترت الروايات وأجمعت على ذلك الأمر في هذه السنة .

القليوبي شاعر ظريف صاحب خيال تأليفي وبياني واسعين ، كما إنه شاعر مصور ومصور بارع ، عُدّ من طبقة ابن المعتز  في هذه المكانة ، وهو شاعر مدّاح متكسب بمديحه من رجالات الدولة الفاطميين وقوادهم وكتّابهم وأصحاب الشأن منهم .

كان القليوبي كاتباً مسترسلاً على سجيته في الكتابة ، فطناً أُعجب به معاصروه وقدّمه أرباب المعالي من الحكّام والأمراء والوزراء ، واما شعره فكان وصّافاً حُقّ له أن يُلحق بكبار شعراء هذا الغرض الشعري المميز في العصر العباسي ، عصر شعر الوصف وعصر شعر المديح والترف الفكري واللفظي والتصويري ، كما هو عصر  الترف الاقتصادي والمعيشي والحضري والعلمي في جوانب الحياة كلها.

ويغلب على شعره القليوبي  التصوير  المبالغ فيه من جهة استعمال فنون البيان المختلفة ، واستنطاق الألوان ولاسيما الزاهية المقربة إلى النفس منها المتفقة مع صور  الطبيعة ولاسيما صور الطبيعة الساكنة ومشاهدها . وأحياناً يمزج شاعرنا القليوبي بين أكثر من وصف لموصوف واحد ببراعة وإتقان حتى في الجمع بين المظاهر الطبيعية المتنوعة من مظاهر الطبيعة الحية أو  مظاهرها الساكنة أو مظاهرها الفلكية أو مظاهرها الصناعية . وربتما كان ذلكم المزج الطبيعي في الوصف والتعبير مع الألفاظ القوية والقوافي الصعبة مثل قافية الجيم الشديدة المكسورة التي آثرها القليوبي في أحد نصوصه الشعرية التي وصف فيه الخمرة أولاً ومن ثُم استطرد إلى وصف النجوم ، كما اختار الصفدي ( ت 764 ه ) في كتابه : ( الوافي بالوفيات ) ، ومنها في كتابه ( الكشف والتنبيه على الوصف والتشبيه) هذا النص الشعري من جملة اختياراته مدحاً وتقديماً . يقول الشاعر القليوبي :

وصافيةٍ بات الغلامُ يديرها                                   على الشربِ في جنحِ الليلِ أدعجِ

كأنَّ حُبابَ الماءِ في وجناتها                                     فرائدُ درٍّ في عقيق ٍ مدحرجِ

 ولا ضوءَ إلا من هلالٍ كأنما                                تفرّقَ  منهُ الغيمُ  عن نصفِ دُملجِ

وقد حالَ دون المشتري شُعاعه                         وميضٌ كمثلِ الزئبقِ المترجرجِ

كأنَّ الثريا في آواخرِ ليلها                                      تحيةُ وردٍ  فوق زهرِ  بنفسجِ

البيان من وسائل سبك الخيال البياني المميز عند الشاعر القليوبي في نصه الشعري هذا الذي لو لم نعرّف القارئ بغرضيه لكان متسعاً على أغراض شعرية أخرى قائمة على وصف الصورة المشاهدة، وانتثار الألوان والموحيات بها ، لنقل الصورة الخيالية إلى السماء وكواكبها في متعة المتابعة للمتلقي، وقوة الالفاظ وجزالتها وشدة الإيقاع الصوتي في القوافي ، والحركات التي تناسب ثقافة الشاعر الكاتب القليوبي والتي تعطيه الأهمية والمكانة بين شعراء عصره ، على الرغم من إن النص الشعري وغرضه قد لا يحتاجان إلى مثل هاته الجزالة وتلكم الشدة ؟!

وتتحول كأن التشبيهية العنيدة أحياناً على الشعراء في دقة الوصف والتعبير في شعر شاعرنا القليوبي إلى أداة تركيب وبناء ، ولاسيما حين تأتي في أول الكلام أي في أول الأبيات الشعرية التي يخامرها الوصف التصويري الدقيق عند هذا الشاعر المتمكن جداً من غرض الوصف هذا . كما في قوله في إحدى نتفه الشعرية يصف فيها النجوم والسماء وما فيهما :

وكأنَّ السماءَ  مصحفُ قار ٍ                                        وكأنَّ النجومَ رسمُ عشورِ

وكأنَّ النجومَ زهرُ رياضٍ                                               قد أحاطت من بدرها بغديرِ

ومن أوصافه يقول في وصف الهلال أيضاً مستعملاً  الأداة  كأنَّ في التشبيه ورسم الخيال والبناء اللفظي المتتابع بين البيتين في نتفته الشعرية التي يقول فيها :

وكأنَّ الهلالّ حافةُ جامٍ                             شفَّ منها ما لم تنله عقارُ

وكأنَّ المجرّ رسمُ طريقٍ                               وعليهِ من الثريّا منارُ

ومن أشعاره ما يصف بها الخمرة ولذة الشرب فيها ولاسيما بعد الحرمة الشرعية عنها وعن شربها في أيام رمضان المبارك عند المسلمين . النزعة النواسية بادية في غرض الشعر من مقطوعته الشعرية هذه، والهروب من التقيد الفقهي الشرعي الديني في رمضان إلى شوال كانت مهمة الشاعر الازلية في التعبير عن كنه مشاعره في شربها والدعوة إلى شربها والالتذاذ بهذا الشرب من قبل الجميع . والأوصاف التصويرية في هذي المقطوعة ممتزجة مزجاً حياً روحياً مع الطبيعة ومظاهرها الفلكية ، ونسي الشاعر أو تناسى الغزل هنا ، وأكتفى بالسكر ولذته ولاسيما بعد انقطاع وراح يصف لنا مصوراً ببراعة هلال شوال وفرجه على الشاربين ومتعتهم ، ربما – والله أعلم – كما كان لذة ومتعة على بعض الصائمين . يقول القليوبي في مقطوعته الشعرية الخمرية هذه التي تقرب من شعر النواسي وأفكاره شعره وأوصافه في الخمرة في بدء حياته اللاهية الفاتنة المفتنة:

ألا فأسقينها قد قضى الليلُ نحبَهُ                             وقامَ لشوال هلالٌ مبشرُ

بدا مثل عرق السام واسترجعت له                            صروف الليالي قرصَهُ وهو مقمرُ

إلى أن رأيناه ابنَ سبعٍ كأنما                                         على الأفقِ منه طيلسانٌ مصوّرُ

وهناك له مقطوعات أخرى أثبتها الصفدي في كتابيه (الوافي بالوفيات)، و( الكشف والتنبيه) وهي لا تخرج عمّا قدمنا فيه القول والذكر من العناية بالتصوير  الفني الخيالي المبالغ فيه أحياناً من جهة المحسنات اللفظية والبديعية ، وتناثر الألوان في رسم الصور الفنية وبيان جماليتها عند الشاعر القليوبي ، وربما يكون هذا التوجه الكبير عند  شعراء عصره في هاته النزعة الفنية واللغوية وحتى في الغرض الشعري وموضوعه .

وللشاعر القليوبي نتفة في الرياض أحببته كتابتها في مقالي المتواضع هذا عنه وعن شعره . وهي ذكرتني بأوصاف الشعراء الأندلسيين في هذه الأماكن الطبيعية الزاهية في أرضهم وأشعارهم، ومدى الإعجاب الكبير لتلكم الأرض وما فيها من جمال وسحر . يقول الشاعر الكاتب القليوبي في وصف الرياض في نتفة مستملحة من أشعاره في الوصف والتصوير  لجمال الطبيعة وسحر مناظرها الخلابة في كل مكان :

وحالية ٍ  لا يكتمُ الليلُ  ضوءَها                                إذا أزهرتْ صلّتْ لها الأنجمُ  الزهرُ

يفرّق منها النشرَ ما ألفَ الثرى                                  ويضحكُ منها الشمسُ ما استدمعَ القطرُ

وللقليوبي أشعارٌ أخرى وأوصاف أخرى في الهلال مرة أخرى ، وفي البدر ، وفي الشمس والكواكب والنجوم ، وفي الخمرة ، وفي الرياض ... كلها نبعت من خيال مصور ، وملتقط بارع لعين الطبيعة الساحرة في الليل والنهار ، بقوافٍ شعرية متنوعة وببحور شعرية مشهورة معروفة وافقت الغرض الشعري ولغته وأساليبه التركيبية والتصويرية .

وإني وفي ختام مقالي هذا عن الأديب (الشاعر والكاتب ) المصري القليوبي في القرن الخامس الهجري ، أحبُّ أن أنوه أن هناك أشعاراً أخرى له في المظان المطبوعة والمخطوطة مثل:

الوافي بالوفيات ، والكشف والتنبيه ، وعقود الجمان ، والبدر السافر  ... وغيرها ، ولعلًّ معجزات الزمن تطلعنا على ديوانه الخطي أو على أوراق من ذلكم الديوان فنسعد بشاعر عباسي جديد يضاف إلى المكتبة الأدبية العربية في العصر العباسي. أو يلتفت أحد المحققين الأكفياء لشعره المتناثر هنا وهناك في المظان المختلفة ليجمعَ لنا شعر شاعر  وصاف مادح  من المؤكد جداً أنه كان في مقدمة الأدباء  وعلى رأسهم شاعراً وكاتباً في ذلك العصر  الحضري  الفكري الرائع.

الكلمات الافتتاحية : إبن القليوبي الكاتب ، ابن القليوبي ، شعراء القرن الخامس الهجري.