في سبيل البحث العلمي ... مدوّنة سيريّة من يوميات باحث

في سبيل البحث العلمي ... مدوّنة سيريّة من يوميات باحث

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

جامعة الأنبار- كلية التربية الأساسية / حديثة .

لمَ لا تعمل جادّاً أيها الباحث العلمي ؟! اليوم؟!

لمَ لا يكون بحثك في القمة ، وفي المركز الأول وأنتّ الأجدر بذلك والأقدر عليه ؟!

ظروفك اليوم ... المعيشية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ... أحسن بكثيرٍ وكثيرٍ جداً من أترابك في غير بلدك ، وأحسن من زملائك السابقين لك في هذا الميدان المميّز المشرِّف من تاريخ الإنسان.

نعم كنّا نسافرُ بعيداً وطويلاً في سبيل البحث العلمي ، للحصول على مصدر من هنا ومن هناك أو معلومة أو لقاء أستاذ شهير بالعلم والبحث والتأليف والتقصي ، لنحصلَ على ما نفيد منه في بحثنا مهما كانت الإفادة صغيرة أو بسيطة ... وهكذا يظنها الكثيرون.

كانت المكتبة الوطنية ودار الوثائق فيها في ساحة الميدان العتيقة المعتقة برائحة التراث والإصالة معاً ، حياتنا العلمية والبحثية كلَّها، نقابلُ فيها الموظفين والقائمين على هذا الصرح الفكري الثقافي منذ ساعات الدوام الأوْل إلى نهاية تلكم الساعات في وقت الظهيرة وفي منتصف النهار. كانوا معوانين جداً لنا في الأشياء التي نطلبها جداً جداً ، ويا لكثرة الطلبات وفضولها أحياناً ... في سبيل البحث العلمي ورصانته مؤكداً.

كنّا نلتحفُ جريدة أو صحيفة يومية لصلاة الظهر عليها ، على الرغم من قرب المسجد منّا كثيراً ، إلا إن الوقت قد يدركنا فتضيع منّا ما لا يمكن تعويضه. نخرج من الصلاة إلى طاولة القراءة مجدداً وقد مُلئت أيدينا سواداً وتراباً من أثر الصحيفة أو الجريدة تلك ومن أثر الأرض عليها . كانت النشوة تجمعنا بلقاء طلبة العلم من كل جامعة من جامعات بلدنا العراق العزيز ، واللمّة الحلوة كفيلة بأن تنسينا الجهد والتعب والجوع، والكلّ يسأل الكل :

أين وصلت ؟

وأين وصلتِ؟

في القراءة ...

في البحث ...

ما منهجكّ أو منهجكِ ... اليوم؟

يا الله ... نصرخُ جميعاً . لماذا ؟

-        زينب اتمّت الفصل الأول ، عن أمكان الشريف الرضي الشاعر العباسي .

-    وعباس أكمل فصلين عن التناص في روايات الروائي العراقي الكبير عبد الخالق ، وهذا موضوع بحثه العلمي .

-        وبقيتْ ... متلكئة بعض الشيء في رسالتها عن الطلل في شعر القرن الثالث الهجري.

وأمّا أنا فأقابل العميان مرة في الشعر ، وأخرى في الحياة ، لكي أواصل السير في بحثي العلمي ملتحقاً بالزملاء المميزين علّي أكون منهم ، والزميلات المميزات ... وهم يعرفون جميعاً صعوبة الموضوع لشاعر أعمى ، ووشّاح أعمى ، وفي الشعر الأندلسي... ولا حجة لي إن قصرت أبداً .

وحين تنتهي الدوائر الرسمية من عملها ومنها هذه المكتبة العامرة بالعلم والخير ، حرسها الله ووفق القائمين عليها، نذهب إلى المكتبة المركزية في جامعة بغداد ؛ لأن الدوام فيها مستمرٌ إلى المساء ، بعد الصلاة وربتما تتبع الصلاة وجبة خفيفة سريعة بحسب المال والوقت.

في الليل، والغرفة مؤصدة البابِ ، نبدأ بلمّ شتات البطاقات البحثية التي جمعنها صباحاً ومساءً من بطون الكتب وأماتها من المكتبات المختلفة. العمل ممتع ولا سيما وطاقاتك مسخرةٌ للبحث العلمي وأركانه ولذائذ العمل فيه ، إذ لا جوّال ولا الفيس ولا الواتس ولا العطاس حتى !

إذا فُقدت إحدى تلك البطاقات (الجذاذات البحثية) ، أو نسيت بعض بيانات المصدر ، أو المرجع كانت المسألة عظيمة لنا وللبحث العلمي إذ يجب العودة إليها مهما كلفنا الأمر والجهد والوقت ، فالخيانة العلمية أعظم وأشدُّ وبالاً وعاقبة من الخيانة الزوجية.

نرابطُ في مكتبات الأساتيذ الخاصة  من كبار المؤلفين والأدباء والمحققين حتى من خارج الجامعة ، مثلاً في مكتبة شيخ المحققين العراقيين والعرب الأستاذ هلال ناجي – يرحمه الله تعالى رحمة واسعة – نلتقي ونحن عشرات الطلبة في سبيل البحث العلمي الجاد المميّز ، كان يطلق علينا الابناء الروحيين ، من كل مكان في العراق وحتى من خارج العراق إذ كان معنا جمعٌ من الطلبة العرب من اليمن وفلسطين وتونس والجزائر والأردن ، الكل كان ينصت إلى هذا الرجل وسعة معرفته بالآخرين من الشعراء والأدباء والكتّاب والمحققين من أنحاء الوطن العربي ، فضلاً عن ملتقياته الثقافية والأدبية التي يتكلّم لنا فيها في كل لقاء عن تأليف للكتاب الفلاني ، وتحقيقه للكتاب الفلاني لمصنفه البارع (كذا...)، وعن بحثه عن تحقيقه العالم (كذا...) في علم (العروض) أو (الصرف) ... وهلّم جرّاً.

كانت تلكم المكتبة – بحقٍّ – المنهل الصافي العذب الذي ارتشفنا منه العلم بنكهة التعب ، وصفاء القلوب وتعاون الأبدان ، الأمسيات الثقافية والأدبية التي كانت تقام في ذلك البيت العامر وضعتنا أمام مسؤولية البحث العلمي الأمين الجاد ، وعرّفتنا على كبار شخصيات البلد في الثقافة والعلم والتأليف والتحقيق ، من أمثال :

·       الدكتور صباح نوري المرزوك – رحمة الله عليه – .

·       الدكتور نعمة رحيم العزاوي – رحمة الله عليه – .

·       الدكتور عباس الجراخ .

·       المفهرس التخصصي حسن عريبي الخالدي.

وغيرهم كثير ، وآسف جداً إن نسيتُ أحداً.

أين أنت أيها الباحث الكريم من هذه العلائق الجميلة مع أصحاب الفكر والعلم والمعرفة ، ارحلْ في سبيل البحث العلمي المميّز فأنت المميّز ، ولا تكتفي بعلائق الفيس أو ووسائل التواصل الأخرى فالطريق أمامك اليوم معبدٌ ومريحٌ وسهلٌ للوصول إلى الآخر الذي ينتظرك بغاية اللهفة والشوق أنت وبحثك العلمي الذي سيزدادُ رصانة وأصالة بمعرفة مثل هؤلاء والقرب منهم .

لا تكثر الفواصل ولا حروف الجر وحروف العطف في لغة بحثك ، هي قد تكون سلبية عليك ، وتشعر الآخرين بالتوتر والقلق والخوف مما تكتب وتنجز من فِقِر بحثك وفصوله وصولاً إلى خاتمته.

نعم ، أيها الباحث العلمي الأصيل الجاد لا تركن إلى الحاسوب ومكتباته الجاهزة والموسوعات الشاملة ، والأقراص الليزرية التي تقعدك عن الرحلة في سبيل العلم ولا أجمل من الرحلة في سبيله واللهِ ، لتكن مثل هذه التقنيات الحديثة وسيلة إلى اتمام بحثك العلمي الرصين ، وفقرة ثانية من وسائل اتمامه ولا الغاية الأولى للإتمام ... الإتمام فقط؟!!

ستشعر  بالجّهد والنصب ، رتّب أخطاءك في عقلك قبل لسانك، وفي وجدانك قبل أوراقك ، ستكون ناجحاً متألقاً – إن شاء الله –، ستشكر الجميع على ما قدموا لك من معونة ومال ودعاء وكتاب ومصدر ، وسيشكرك البحث العلمي الرصين وآلياته ومنهجه شكراً يفوق الشكر كله ، ويثني عليك الأساتيذ والزملاء وطلبتك الذين سيفخرون بك يوماً حين يضعون صورتك البهية المشرقة في جدارية القسم ، وأنت المميّز في البحث العلمي والتأليف والتحقيق والنشر ، إلى جنب الاساتذة  الأفاضل ممن كانوا قبلك في العلم والجدارية . أنتَ مع :

-        الدكتور أحمد مطلوب .

-        الدكتور عماد عبد السلام رؤوف .

-        الدكتور عبد الرحمن علي الحجي.

-        الدكتور بهنام أبو الصوف .

-        الدكتور إبراهيم السامرائي.

-        الدكتور حاتم صالح الضامن .

-        الدكتور مهدي المخزومي .

-        الأستاذ هلال ناجي.

-        الشيخ محمد حسن آل ياسين.... وغيرهم كثيرٌ والحمد لله تعالى.

وأنتِ – أطماني تمامً- ستكونين صنو هؤلاء في البحث والعمل والخلود أنتِ مع :

-        الدكتور خديجة الحديثي.

-        الدكتورة بشرة البستاني .

-        الدكتورة صباح الشيخلي .

-         الدكتورة أمل السعدي ... وغيرهن كثيرٌ والحمد لله تعالى .

لم يبقّ أمامك إلا أن تقدّم البحث بشهية دسمة وتستعد للمناقشين الأوفياء للعلم والبحث العلمي ، هم سيغنون البحث بهدايا مجانية في الأسلوب والأفكار العلمية والمنهجية والنتائج . خذ منهم ما استطعت وتعلّم منهم أدب الحوار والنقاش ، فهم أهل لذك واللهِ ، لك ولزملائك وزميلاتك بحسب  التخصص العلمي ،واللقب العلمي ، ووقت المناقشة ونوعها ومكانها.

مبارك لك ما قدّمت ، مبارك لأستاذك المشرف ، مباركٌ لقسمك العلمي ، مباركٌ لنا جميعاً بولادة باحث علمي جادٍ مميّز في عالم البحث العلمي ، لا تنس تقديم هذه الوصايا إلى محبيك طلبتك النجباء أينما حللتَ وعلّمت ، ولا تنسانا من الدعاء ... الدعاء فقط.