لغة الجمال بين الإهمال والاستعمال

لغة الجمال بين الإهمال والاستعمال

  لغة الجمال بين الإهمال والاستعمال

أ.د خميس فزاع عمير الدليمي

جامعة الانبار -كلية التربية- القائم(العراق)

 

 

بسم الله نبدأ والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي جاءنا بأحسن مبدأ وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فاللغة العربية : هى وعاء ثقافتنا ، وعنوان هويتنـا ، فالمحافظة عليها ورعايتها استبقاء لقوة وحياة الأمة العربية والإسلامية بين الأمم ، فلا محيص عن إتقانها تحدثا وقراءة وكتابة واستماعا ، وليسهم كل منا على قدر استطاعته : معلما، ولى أمر ، طالب علم في إزالة الأسباب التي قد تؤدى إلى ضعف الناشئة فيها، وليكن أمامنا دائما قول الله تعالى: (( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِين))،وقوله :((  لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ? أَفَلَا تَعْقِلُونَ )).

 مقالي ((  لغة الجمال بين الإهمال والاستعمال)) يبين احد الإشكالات التي تخص المصطلح والتّأصيل والمنهج في فلسفة التحول في دلالة الفاظ يستعملها انت وانا وهي وهو بشكل متباين من خلال الخلط في توليد معان  ثانوية قد تسبب احراجا ومشاكل على الاصعدة كافة اذ ان الألفاظ أشبه شيء بكائن حيّ، تنمو بنموّ الحياة الاجتماعية وتتحرّك بتحرّكها، والمعاني التي هي علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول تنمو، طبعاً، بنموّ الألفاظ وتغيرها وقد تميزت اللغة العربية عن غيرها من اللغات بثراء مفرداتها وغزارة تعابيرها. ففي الوقت الذي تتكون فيه اللغة الروسية من 130 ألف كلمة، والفرنسية من 150 ألف كلمة، وتراوح الإنجليزية بين 400 و600 ألف مفردة على الأكثر، تتخطى العربية حاجز 12 مليون كلمة.

وفي الوقت نفسه، تفخر لغة الضاد بتعدد معاني كل مفردة واحتمالها للكثير من التفاسير إلا أن ما نجهله أن استخدامنا بعض لألفاظ، يأتي مغايراً لمعانيها الأصلية  فكم من مفردات تحمل معاني إيجابية، نعدها سباً، وبالعكس، وتأسيساً على ذلك، تحيا ألفاظٌ وتموت أخرى، الفاظ مستعملة قد تهجر ومهجورة قد تستعمل  وتتبدل مفاهيم بعض الألفاظ بمفاهيم أخرى  ولا نريد هنا أن نضيق من شمولية مدلول الكلمة، وإنما نريد أن نبين أن للدلالة أكثر من وجه دلالي يخضع للسياق والتركيب لتنصهر جملة هذه العناصر كلها في بوتقة واحدة، لتسهم في بناء التطور الدلالي للعلوم الحديثة، وكل ذلك يرتبط بعنصرين أساسيين، اولهما :المكان ويرتبط بظهور وتطور اللهجات، فنجد المصريين يستخدمون "بص" بمعنى انظر، في حين يستخدمها التونسيون بمعنى "سيئ وهذا شائع في كل اللغات؛ وذلك لأن العوامل الاجتماعية والتغيرات الحياتية التي تواكبها اللغات من حيث الكلمات وحروفها والجمل وكلماتها والنصوص وجملها.

العامل الثاني هو الزمان، أي يتغير معنى اللفظ بمضي الوقت، وهنا يتعلق باختلاف العوامل النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية يقول أحد المحدثين: " إن الحياة متجددة دائمًا، وهذا واقع أوضح من أن يحتاج إلى برهان، والفكر الذي يكيف ما يجري في الحياة ثم يحدده؛ ليكون معاني تصلح أن توضع في قوالب لغوية - هو أيضاً -دائب السبح والتقلب والتجديد بما لا حدود له، فمن الطبيعي أن تكون اللغة المعبرة عن الحياة والفكر متجددة بل مُتَوَثِّبَة التجدد؛ لتلاحق تلك الحياة وذلك الفكر في التعبير عنهما".

فهي ظاهرة اجتماعية، لأنها تحيا في أحضان المجتمع، وتستمد كيانها منه، وهي تتطور بتطوره، فتسموا بسموه  وتنحط بانحطاطه والذي يحكم ذلك هو السياق أي أن النص ثابت والمعنى متحرك متجدد ولنقم بجولة لغوية، ولنلاحظ تغير الدلالات:

الاختصار: كانت تعني سلوك أقرب الطرق، فصارت بمعنى حذف الزيادة، وتقليل المبنى مع إبقاء المعنى.

الاقتباس: انتقلت من معنى القبس (الشعلة من النار) إلى معنى الاستفادة، وفي البلاغة نجد معناه الإفادة من نص من القرآن الكريم في جملة معينة، ثم تطور المعنى إلى كل أخذ من أي نص، ويجب أن يكون النص االمقتَبَس بين مزدوجين" ........ " .

المشاجرة: انتقلت من معنى تشابك الأشجار وتداخل بعضها ببعض إلى معنى المنازعة والمخاصمة.

الحقد: انتقلت من معنى الاحتباس (حقد المطر: احتبس) إلى معنى إمساك العداوة في القلب حتى الوقت الملائم.

الذكاء: من معنى لهب النار إلى معنى سرعة الفهم وتوقد الذهن.

الشرف: من معنى المكان العالي المرتفع إلى معنى علو الحسب والرفعة.

العقل: من معنى الربط المادي (عقل الدابة= ربطها) إلى معنى إدراك الأشياء على حقيقتها، والربط الذهني.

الفنّان: انتقلت من معنى حمار الوحش، إلى صاحب الفن من موسيقا أو رسم أو رقص ...إلخ والمعنى الاصلي للكلمة هو «الحمار الوحشي الذي يأتي بفنون من العدْو» .

الإعدام: كان بمعنى فقد المال، فأصبح المعنى فقد الحياة.

الحضارة: من معنى الإقامة في الحضر (المدن والقرى) إلى معنى مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي في الحضر.

الجريدة: من معنى ورق النخل الذي كانوا يكتبون عليه، فأصبح اليوم بمعنى الصحيفة.

‏ان ما تعانيه اللغة اليوم من تباين في فهم المفاهيم انما هو جزء لا يتجزأ مما تعانيه الأمة العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، فالأمن اللغوي لا يقل أهمية عن الأمن العام والأمن الغذائى، لذلك فالحاجة ملحة لحماية اللغة العربية من المخاطر التى تحيط بها من الداخل والخارج، فمخاطر الداخل تتجسد فى الإهمال والتقصير الواضح فى مجال التعليم والإعلام، أما مخاطر الخارج فتبدو فى شكل العولمة التى بدأت تبسط نفوذها شرقاً وغرباً، فى محاولة لتدمير الثقافات الوطنية والتمكين للغة واحدة، هى لغة القوة المهيمنة سياسياً واقتصادياً، وهو خطر عظيم يهدد لغتنا وثقافتنا فى الصميم.

وما زالت ظاهرة إهمال اللغة العربية مستمرة؛ فتبدأ هذه الظاهرة في احتلال اللغات الأجنبية العقولَ قبل الألسن، فأصبحت متداولة في المدارس والشارع وحتى في البيوت.

منا مَن اعتبرها لغة الإرهاب، ومنا مَن يخجل أن يتواصل أو يتكلم باللغة العربية معتبراً اللغة الأجنبية لغة المستقبل هي الثقافة والأناقة  ، بل ولغة الحصول على فرصة العمل!

أنا لست ضد الثقافة والانفتاح، لكني ضد احتلالها لعقولنا، واقتحامها لبيوتنا، فأخشى ما أخشاه أن نصبح غرباء عن لغتنا، ونصبح كالغراب الذي أراد أن يقلد الحمامة في مشيتها، فما استطاع أن يقلدها بل نسي أن يقلد مشيته.

يقول مدرس لغة نيوزيلندي: “إذا كبرت ولم تتكلم لغتك فلن تعرف من أنت”! ومن خير ما أختتم به نصيحة لي قِبلكم، أرجو أن نحافظ على لغتنا الأم؛ لأنها لغة القرآن أولاً، ولأنها لغة التميز والجمال.. لغة البهاء والكمال، اللغة الأبلغ تعبيراً والأبسط لفظاً والأجمل خطا ورسما، والحمد لله الذي جعله قرآناً عربياً بلسان عربي فصيح… أنيق وجميل…

 تكلموا بها، افتخروا فيها، أحبّوها، وأنقذوها فلغتنا الأجمل والأكمل!