حركة الهسكلاه وبداية الادب العبري الحديث

حركة الهسكلاه وبداية الادب العبري الحديث

حركة الهسكلاه وبداية الادب العبري الحديث

مقال للدكتور عذاب حميد ذيب

كلية التربية/ القائم

17/7/2021

 

         تعد فكرة الاعتزال عن شعوب العالم، من الأفكار الراسخة في وجدان اليهودي على مر التاريخ، بسب الظروف المحيطة بهم، والتي كانت في الغالب نتاج حصاد أيديهم مما كانوا يزرعون من فتن وانقلابات لمن يعيشون معه أو يعيش معهم. واثناء تواجدهم في أوروبا كان الجيتو مقراً لهم ليعيشوا حياة العزلة، ( الجيتو، من الأصل الإيطالي بورجيتو) (يعني جزء صغير من المدينة) واصبح نمطاً سكانياً مميزاً لهم عن بقية الجوييم الاغيار (سكان الدول الأخرى)، فهم لا يأكلون أكلهم ولا يتزوجون منهم ولا يتعاملون اقتصادياً معهم كونهم شعب الله المختار، ومخالفة هذه الأمور يدخلهم في باب المعصية ومخالفة الشريعة، على الرغم من أن الكثير منهم لم يتقيد بهذه التشريعات والوصايا، لكن هذا هو الاطار العام لحياتهم وديانتهم، وهكذا تقوقعوا داخل احياء الجيتو ليتمكنوا من المحافظة قدر المستطاع على هذه الأفكار المتزمتة. وقد كانت اليديشية لغتهم وهي عبارة عن خليط من اللغات السلافية والألمانية والعبرية، مما شكل ريبة وخوف ممن كان يتعامل معهم فالإبهام وعدم الفهم كان دائماً نصيب من يتعامل معهم، كما أنهم لم يستخدموا العبرية لأنهم يعدونها لغة مقدسة ولا يجب تدنيسها بكتابة وقراءة الأمور الحياتية. وهكذا كانت كل هذه الأحوال والتصرفات عوامل صد بوجه التطور الفكري والادبي؛ فلا جمهور يفهم ما يكتبون من نتاجات أدبية ولا قدرة لغوية مرنه يمكن ان تفتح قرائح الإبداع الأدبي.

 وبعد تلك المدة الزمنية وتحديداً عام 1780 سادت اوروبا فترة من التنوير او الاستنارة  الثقافية،  فظهرت ما عرفت بحركة الهسكلاه  وهي تيار اجتماعي فكري كان يهدف الى اخراج اليهود من العزلة التي اشرنا اليها، وان اليهودي يجب أن يتكيف مع محيطه البيئي دون ان يتخلى عن هويته، وهنا فقد عملت حركة الاستنارة  الاوربية على التخفيف من سلطة الكنيسة والدولة، والتشجيع على حرية الفكر، وان لكل شعب اتجاهاته ووظائفه الخاصة، كما استنكرت الحروب وشنها على الاخرين، وكذلك الحواجز السياسية التي تفصل الانسان عن أخيه الانسان والعمل على سيادة الروح الإنسانية ، لذلك ورغبة من المفكرين المتنورين طلبت هذه الحركة من اليهود استثمار حركة التنوير هذه والتي تعتبر طوق نجاة للتخلص من بحر الازدراء الذي كانوا يعمون به في ظل حياتهم القاسية في اوروبا، غير ان مفكرين اخرين قاوموا الحركة وعدوها ضياعاً لهوية اليهودي، وبرغم ذلك بدأت نوافذ الجيتو تتفتح امام ضوء التنوير لتقشع ظلماته داخل البيوت اليهودية، وتبدد الأفكار المتزمتة. وقد كان الأديب موشيه مندلسون رائداً من رواد حركة الهسكلاه، فقد كان ملماً بالتراث اليهودي والتراث الأوربي، كما كان أيضاً نفتالي هيرتس فايزل  رائداً من رواد حركه الهسكلاه وقد أصبحت مقولة الاديب  يهودا ليف كولدبيرج " كن يهوديا في بيتك وانسانا في الخارج" شعاراً لفهم نمط الحياة الجديد والذي يجب ان يطبقه اليهودي، فانتشرت الحركة الفكرية وظهر العديد من الصحف مثل هشالوح و هتصوفيه. وقد قسم الاديب والناقد يوسف كلاوزنر مراكز حركة الهسكلاه الادبية الى ثلاث مراكز الأول شمل المانيا وهذا المركز كان يقارع السلطان الديني المتمثل بالتيار الأرثوذكسي الذي ترسخت لدية أفكار دينية على مر عصور طويلة وكان  موشيه مندلسون يمثل  زعامة هذا التيار اما المركز الثاني فتمثله جاليسيا وقد حاول هذا المركز إيجاد تكامل بين الدين والاستنارة ويمثله   نحمان كروخمال اما المركز الثالث فقد شمل روسيا وبولنده، وهو خط أدبي عاد فيه الصراع بين حركة الاستنارة والدين، وهنا ربط الادباء بين الدين اليهودي ومظاهر التزمت اليهودي بالأفكار الغريبة والرجعية الى حد كبير. ويمثل هذا التيار الاديب  مندلي موخير سفاريم. و رجحت حركة الهسكلاه في واروبا الغربية اكثر من شرقها كون يهود غرب أوروبا أكثر تحقيقاً في الإنجازات العلمية وأكثر اطلاعاً على اللغات الاوربية، كما أن عددهم أكبر مما يسهل عملية الانتشار لهذه الحركة الأدبية الجديدة في تطلعاتها وأهدافها، وأيضاً عدد كبير من يهود اوروبا الغربية تحت قيادة جماعة المورانو، وهم جماعة نسبهم المؤرخون اليهود الي يهود اسبانيا والذين اظهروا المسيحية ومكثوا في اوروبا ولم يخرجوا منها؛ فكان لهم دور كبير الانتعاش الاقتصادي ونشر الثقافة الاوربية بين اليهود. وقد كان لأدب حركة الهسكلاه ثلاثة تيارات أدبية تمثل الأول بالتيار الكلاسيكي وهو الذي قامت عليه أسس النهضة ويتمثل في تغليب الشكل على المعنى ويتناول النفس الإنسانية والحياة الاجتماعية في إطار قوانين عقلية محددة بحدود المنطق الجامد ولا يتغلغل الى المشاعر والاحاسيس واضطراباتها، فكان الادباء الاوربيون يرون ان العقل هو الذي يحرر الانسان من سيطرة الكنيسة وهو الضمان لحرية الفرد. وقد كان الاديب نفتالي هيرتز فايزل رائدا لهذا التيار. اما التيار الثاني فهو تيار الرومانسية ويهتم هذا التيار بالعاطفة والاحاسيس والخيال ويمثل  ابراهام مابو و يهودا ليف كولدبيرغ هذا التيار. اما التيار الواقعي فهو يمثل هبوط الناس من ابراجهم الفكرية العالية الى واقع حياتهم لمجابهة الحياة ومن رواد هذا التيار سمولنسكين و موشيه ليلينبلوم.

وقد اتسم الادب العبري في مرحلة الهسكلاه بسمات عدة منها الاهتمام بالجوانب الإنسانية والتفاؤل والابتعاد عن قضايا الدين، مثلما ذكرنا رغبة منهم في استغلال عصر التنوير ومجاراة الحياة الجديدة، وقد كانت ليهودا ليف كولدبيرغ قصيدة اسماها  هقيتصا عمي (استيقظ ياشعبي) كان فيها بيتاً شعرياً أصبح شعاراً لليهود (كن يهودياً في بيتك وانساناً خارجه). وقد كان الشعر هو السائد والأكثر انتشاراً من بقية الاجناس الأدبية، والسبب ربما يكون في عدم مرونة الييدشية حينها وصعوبة الكتابة باللغة العبرية، أدى هذا الامر الى الرجوع الى لغة العهد القديم مما شكل تأثيرا واضحا في ادب حركة الهسكلاه مما يجعل القارئ يشعر وكأنه حين يقرأ نصا ادبيا وكأنه يقرأ في العهد القديم متأثرا بأسلوبه اللغوي وخصوصاً استخدام واو القلب بشكل كبير.

وأخيراً فقد فشلت حركة الهسكلاه الأدبية التي مثلت اول خطوة في تاريخ الادب العبري الحديث، وذلك بسبب ظهور مشكلة اليهود في روسيا إثر مقتل قيصر روسيا وماعقبه من مذابح بحقهم  سميت بالبوجروم هذا من جانب ومن جانب اخر ظهور التيار القومي في اوروبا، حيث بدأ كل شعب فيها بالبحث عن هوية خاصة، وهنا كانت تلك المقومات اللازمة لليهود غير متوفرة، فلا أرض ولا لغة  ترتكز علية القومية، فتأثر اليهود بهذا التيار وانخرطوا في الفكر الصهيوني يبحثون في  العهد القديم عن أساس لهذه القومية ليصبحوا مثل دول أوروبا، وهنا وجدوا في العهد القديم وبلغته العبرية ارض إسرائيل،  فتمكنوا من احياء اللغة أولا ومن ثم التخطيط لإقامة الوطن القومي وهو أرض فلسطين العربية بعد ان عرضوا أكثر من مكان لاقامة دولتهم مثل اوغندا والأرجنتين. ومن هنا كانت حركة الهسكلاه بأدبها بداية لحركة الاحياء الصهيوني وادبها الذي بدأ يتغنى( بأرض الاباء والاجداد) حسب نتاجهم الذي تلى مرحلة الهسكلاه لتشكل المرحلة الثانية في تاريخ الادب العبري الحديث.