نظرة واقعية في مستقبل اللغة العربية

نظرة واقعية في مستقبل اللغة العربية

نظرة واقعية في مستقبل اللغة العربية  

أ.د خميس فزاع عمير الدليمي

جامعة الانبار -كلية التربية- القائم

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبياناً، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله إنساناً، نبينا محمد r نبي البيان، وحامل الوحي، وأمين الرسالة، وصفوة البشر، وعلى آله واصحابه،  ومن تبعهم بأحسان إلى يوم نلقاه ويلقانا.

فقد خطَّت العربية لنفسها شهادةً تؤكد عبقريتها وقدرتها المتجددة على التطور، فقد كانت لغة الإبداع العربي قبل الإسلام، ولغة الإعجاز الإلهي بعد ظهوره، وقد استوعبت كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، واستوعبت حضارات مختلفة، وعلومًا شتى، حتى تنبأ لها غير العرب بالخلود "ولمَّا سُئل جول فرن عن سرِّ اختياره للغة العربية، قال: إنَّها لغة المستقبل، ولا شكَّ أنه يموت غيرها، وتبقى حية وظلت العربية على مر العصور حافظة لكيانها، ولم تجرِ عليها عواملُ الفناء والانحلال كغيرها من اللغات، فما السرُّ في ذلك لا شك أنَّ اصطفاء الله تعالى لها لتكون لغة أعظم الأديان قاطبةً يفسر جانبًا كبيرًا من هذا السرِّ، بيد أنَّ هناك عواملَ أخرى ضمِنتْ للعربية البقاء، وهذه العوامل تعود إلى سمات اللغة العربية نفسها، وربما هي التي أهَّلتْها لتكون لغة التنزيل.

ولأجل توعية الجماهير بأهميَّة اللغة والعناية بها، والعمل على نَهضتها، كان هذا اللقاء من بابِ دَق جَرَس الخطر؛ ليُنَبِّه الغافلين ويوقِظ النامين، ويَشحذ الكسالَى.

فاللغة العربية هي الجِسْر الآمنُ للولوج إلى علوم الكتاب، وتحرِّي الصواب، لا يحول بيانُها، ولا يزول لسانها، فقد فاقَتْ باقيَ اللغات لفظًا وتبيانًا، سرًّا وسِحْرًا وجمالًا؛ بفضْل ما اتَّسمت به من قوةٍ في البناء، وجزالةٍ في التعبير، ودقَّة في اللفظ والمعنى والمضمون، فقد استطاعت أن تستوعب جميع اللغات، وتحتوي كلَّ العلوم، وتتَّسع لكل الأزمنة والعصور، وزادها تميُّزًا خصائصُها النادرة، ومزاياها الفريدة؛ من كثرة مفرداتها وغناها، ووجود المترادفات فيها وتنوُّعها.

وكذلك هي معجزةٌ بأصواتها التي بلغت الكمال الجماليَّ من مخارجَ وصفات وغيرها من مقوماتها الصوتية الثابتة، وقد سلِمتْ من الركاكة والضعف وتنافُر الحروف، فقال فيها أحد فلاسفة الغرب: "معجزة اللغة العربية أنها ليست لها طفولةٌ، وليس لها شيخوخةٌ"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلَّمُوا العربية؛ فإنها تَزيد في المروءة".

لكن اليوم نعيش أَزمة لغويَّة شائكة طاحِنة، فقد زاحمَت اللغة الإنجليزية اللغةَ العربيَّة في عمق وجودها، على الرغم من تفاوت القوانين والدَّساتير في الإقرار باللُّغة العربيَّة كلغةٍ رسميَّة، إلاَّ أنَّ الواقع يوضح أنَّ ما هو مقنَّن في الدَّساتير ليس مطبَّقًا بحذافيره في التعاملات اللُّغوية بين الحاملين لجنسيَّة عربية؛ حيث يقرُّ للغةِ العربية أن تكون لغةً رسميَّة، ولغة أُمًّا قبل باقي اللُّغات المزاحمة، ولكن الواقع غير فلقد عرَف الناس مغبَّة مَن أخَذ العلم بغير لُغة أُمَّته من قديم، وشاعَت في الناس حِكمة يردِّدونها: "إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنيَّة ينقل كل العلم إلى الأُمَّة".

ولن يكون مستحيلاً أن يتمَّ تفوُّق اللغة العربيَّة لتتألَّق بمرتبة قيادية تفوُّقيَّة في العالم، وليس مستحيلاً أن تتصدَّر المرتبة الأولى بدل اللغة الإنجليزيَّة، خاصَّة أنَّها لغة عرِيقة وقديمة، وما تحتاج إليه لتقود العالمين هو التمكين والاستعمال والترويج لها، بشرط أن تتمَّ متابعة البرامج التنمويَّة لها، ويكون هناك حرص على تحديث وتجديد طبعات المجلدات والقواميس المترجمة إلى اللغة العربيَّة، والدَّفع بهذه اللغة في مشروع ذخيرة لغويَّة تخترق العالمَ، سواء في السياحة أو التعليم أو التعاملاتِ التجاريَّة، وحتَّى في مستحدثات التكنولوجيا، صحيح أن المهمة تبدو صعبة بالنَّظر إلى ما تعيشه اللُّغة العربيَّة من مضايقاتٍ؛ مثل ضعف إنتاج المصطلح العلميِّ، ونقص انتشار اللُّغة العربيَّة على الشبكة العنكبوتيَّة وفي طرق التواصل الاجتماعي، وهو ما يسبِّب عدمَ الشكل وبالتالي سيشْكل في المنطوق من الكلام، لكن تحدِّي التنافس غير الشرِيف للغات الأجنبيَّة على اللغة العربيَّة يمنح لمحبِّيها إرادة قويَّة للتحدِّي وفَرْض موروثِها اللغوي بالقوَّة.

إن أعداء العربية يدّعون أن هذه اللغة لا تستطيع التعبير عن حقائق العلم التجريبي!! ويدّعون تارة أخرى أنّ الحروف العربية ينبغي أن تُستبدل وتحلَّ الحروفُ اللاتينية محلّها، وينادون تارة بإحلال العامّية محل الفصحى.. إلى غير ذلك من الادّعاءات الباطلة فأردت في هذه الكلمة بيان فضل هذه اللغة ((قد بدت البغضاء من افواههم)).

اللغة العربية لغة حية ظلّت على مدار بضعة عشر قرنًا لغة الأدب والشعر ولغة المعارف العامة التي كان العرب يعرفونها بحكم تجربتهم ورواياتهم ثم غدت لغة العلم منذ القرن الهجري الأول وما زالت كذلك إلى الآن.

يكتب الفقيه بها علم الفقه، ويكتب الطبيب بها علم الطب، ويكتب الفلكي بها علم الفلك، ويكتب عالم الرياضيات بها حقائق هذا العلم، ومن الجدير بالذكر أن أمتنا هي التي اخترعت علم الجبر، ويكتب عالم الفيزياء وعالم الكيمياء بها حقائق هذين العلمين.. وهكذا..

وما زالت هذه اللغة متصفة بالحيوية حتى هذه اللحظة، وقد عمل المستعمرون الذين احتلّوا بلاد المسلمين بالحديد والنار على محاربة اللغة العربية، وصنع مناهج التعليم على ما يحقق لهم أغراضهم الاستعمارية، لقد عمدوا إلى جعل الإنكليزيّة محل العربيّة في الجامعة والمدارس الثانويّة في مصر العزيزة بلد الأزهر، وكانت العربية قبل ذلك هي لغة التعليم، وكانت الكارثة؛ إذ قلّدت بعض الدول العربية مصر في ذلك.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أمّا بلاد الشام؛ فقد أبت أن تنقاد إلى هذه الخطة المغرضة، وشرعت تدرس الطبّ منذ أكثر من ثمانين سنة في كلية الطب باللغة العربية ولما أنشئت في دمشق كلية العلوم والكليات العلمية التجريبية الأخرى كان التدريس فيها كلها باللغة العربية وكان في هذه الكليات علماء أفذاذ جمعوا بين معرفة واسعة في اللغة وإتقان للمادة العلمية التي يدرسونها، وقد كتبوا في علومهم التي تخصصوا بها كتبًا ضخمة مؤلّفة بالعربية من الطبّ والرياضيّات والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها أغنوا بها الفكر العلمي المكتوب بالعربية. وكان المتخرّجون في هذه الكليات متمكّنين من مادّة التخصص التي درسوها وكانوا متفوّقين في تخصّصهم، واستطاع من ذهب منهم إلى ديار الغرب لمتابعة دراسته أن يثبت تمكّنه من مادّة تخصّصه واستيعابه لحقائقها.

فمن مميزات تاريخ العربية التي تؤهلها لقيادة البشرية بامتياز أن قراءة النص العربي القديم ليست مستحيلة، بل متاحة أشد ما يكون، فإذا أخذنا النصوص الشِّعرية الأولى فإننا نقرؤها ونتبيَّن معانيها ببساطة، وذلك راجع إلى صلة العربية الحديثة بالعربية الأولى، بينما يعجِز أصحاب اللغات الأخرى - كالفرنسية والإنجليزية - عن قراءة نص لا يجاوز عمره ثلاثة قرون فقط، وهذا دليل على قابلية اللغات الأخرى للتحول السريع المخل بالمبادئ والأصول اللغوية، وهو نذير زوالها في المستقبل، بينما تحتفظ العربية باستمرارها تماشيًا مع استمرارية القرآن الكريم والحديث الشريف.