ماهية النادرة في الأدب العربي القديم

ماهية النادرة في الأدب العربي القديم

ماهية النادرة في الأدب العربي القديم

أ.م.د. أحمد محمود عبد الحميد البياتي

النادرة عند القدماء[1]:

النادرة في اللغة:

     يبدو أن نوادر الكلام تشتق من ندر بمعنى خرج عن المألوف وشذ وغرب، أو خرج عما يحيط به من العام المعروف، إذ أن (نَدَر الشَّيْء إِذا سقَط؛ وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك لشيءٍ يَسْقُط من بَين شيءٍ أَو مِن جَوف شَيْء؛ وَكَذَلِكَ نوادرُ الْكَلَام يَنْدِرُ.)، وقال الجوهري: (نَدَرَ الشَّيءُ يَنْدُر نَدْراً: سَقَطَ وَشَذَّ، وَمِنْهُ النَّوَادِرُ.)، وقيل: (ونَدَرَ الكلامُ نَدارَةً: غَرُبَ)؛ فالنوادر: جمع نادرة وهي من النُدْرة، وفيها معنى الخروج فالنادر هو الخارج عن المألوف والشذوذ والغريب، ولكن ما العلاقة بين النادرة ذلك السرد المضحك وبين هذه المعاني؟

نجد جواب هذا في التراث العربي، فالعرب ترى أن العجب ما يستحق الضحك، ومن هذا وصية لقمان لابنه: (يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تمش في غير أرب)، ونصوص غيرها كثيرة منها، وقال الجاحظ: (متى رأيت عجبا لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحك إخبارك إياه) ، فرؤية العجب هو ما يضحك، وروايته أشد إضحاكا، فإذا علمنا أن العجب: (إِنكارُ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ لقِلَّةِ اعْتِيادِه) ، فالنادرة الشاذ والخارج عن المألوف والغريب، والعجب قليل الاعتياد، والعجب هو المضحك، لذا سمي النص المضحك بالنادرة، وهو قص غير المعتاد أو العَجيب أو الخارج عن المألوف من الأحداث.

     لدراسة النادرة في التراث العربي أهمية كبرى، لما تثيره من موضوعات عديدة تتعلق بمفهوم النادرة ذاتها، وموضوعاتها، ومكانتها، والتأليف فيها، وبلاغتها بين القدماء والمحدثين، والتنازع الاصطلاحي بينها وبين عدد من الألفاظ الأخرى، ومن هم مبدعوها، ومن أشغف بتلقيها، وتعبيرها عن الحياة وما مرت به من متغيرات في جوانبها عامة، وفي الجانب الأدبي الفني خاصة، وصراع وجودها، وغير ذلك من موضوعات خصبة تكشف عن جوانب جديدة في الحياة العربية وأدبها، إلا أن هذه المقالة لا تتسع للقيام بكل هذه المهام، فصددنا عن الموضوعات التي تربط بين النادرة وأي طرف آخر خارجها، وجعلنا موضوعنا منصبا على النادرة ذاتها، وهي:  

مفهوم النادرة عند القدماء:

     نظرت في عدد من كتب القدماء مما كثر فيها إيراد النوادر باحثا عن مفهومها، الذي على أساس منه اختاروا نصوصها منطلقا من النصوص ذاتها، ووجدت أن الكُتاب كانوا ينظرون إلى النادرة بمفهومين:

الأول: أنها نص سردي قصير جدا يغلب أن يكون مضحكا؛ لما فيه من عجب، مع نقد لجانب من جوانب الحياة، ولكن يجب أن نعلم أن النادرة الواحدة لا تعجب كل متلقيها وتضحكهم في كل حال، فهذا محال، لذا كان الحكم انطلاقا من تأثير النادرة بي متلقيا، وشرعت بالنظر فيها انطلاقا من كتب الجاحظ (255هـ)، ولبيان مفهوم النادرة عند الجاحظ نوازن بين نصين:

أولهما: (ومن النوادر، قال: ادّعى رجل على الهيثم بن مظهر الفأفاء أنه سرق بغلا؛ فقال له الوالي: ما يقول؟ قال: ما أعرف مما يقول شيئا! قال: أصلحك الله، إنه سكران فاستنكهه. قال: لأيّ شيء يستنكهني؟ آكلت البغل؟)، والثاني: (قال الجاحظ (من نوادر الأخبار والأشعار: قال أبو الحسن عتّاب: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، إن الإسكندر كان لا يدخل مدينة إلا هدمها، وقتل أهلها، حتى مرَّ بمدينة كان مؤدبه فيها، فخرج إليه، فألطفه الإسكندر وأعظمه، فقال له: أيها الملك، إن أحق من زيّن لك أمرك وواتاك على كل ما هويت لأنا، وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، وأحب ألَّا تشفعني فيهم، وأن تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه الإسكندر من ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي أن تدخلها وتخربها وتقتل أهلها. فقال الإسكندر: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك.).

     نلاحظ أنه في النص الأول قال: (النوادر) معرفا بالألف وهو تعريف عهد، ثم جاء بسرد قصير يثير الضحك، وهذا يدل على أن النوادر مصطلح معروف الدلالة عند الجاحظ ومتلقيه، وأنه منطبق على النص، وفي الثاني قال: (نوادر الأخبار والأشعار)، ثم جاء بسرد قصير متعلق بالواقع فيه شيء من الغرابة، إلا أنه غير مضحك، ونجد الجاحظ ذكر كلمة النوادر معرفة بالإضافة، فجاءت هنا بمعنى القلة، ثم عطف الأشعار على الأخبار، وهذا يدل على أن الجاحظ قد أخرج النادرة من حيز الخبر مفردا إياها بمصطلح يخصها، ومما يثبت هذا الاستنتاج قوله: (فربّ شعر يبلغ بفرط غباوة صاحبه من السرور والضحك والاستطراف، ما لا يبلغه حشد أحرّ النوادر)، فالشعر مهما بلغ من إثارة الضحك والاستطراف يبقى شعرا لا يسمى نادرة، وأن ما يثير الضحك والاستطراف هو النوادر، وبالتالي فلا يصح عندي ما توصلت إليه بعض الدراسات من أن الجاحظ يستعمل (عبارتي النوادر والأخبار في ترادف تقريبا).

   ونجد نصاً للجاحظ يطلق عليها مصطلح النادرة وهي سرد قصير كذلك، إلا أنها تثير الإعجاب أكثر مما تثير الضحك، وهو: (نوادر ديسيموس اليوناني: قال صاحب الديك: حدّثني العتبي قال: كان في اليونانيّين ممرور له نوادر عجيبة، وكان يسمّى ديسيموس، قال: والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة ما منها إلّا وهي غرّة؛ وعين من عيون النوادر: فمنها أنّه كان كلّما خرج من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات للغائط والطهور، ألقى في أصل باب داره وفي دوّارته حجرا، كي لا ينصفق الباب، فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى دفعه كلّما رجع من حاجته، فكان كلّما رجع لم يجد الحجر في موضعه، ووجد الباب منصفقا. فكمن له في بعض الأيّام ليرى هذا الذي يصنع ما يصنع. فبينا هو في انتظاره إذ أقبل رجل حتّى تناول الحجر، فلمّا نحّاه عن مكانه انصفق الباب، فقال له: ما لك ولهذا الحجر؟ وما لك تأخذه؟ فقال: لم أعلم أنّه لك. قال: فقد علمت أنّه ليس لك!)، والرأي عندي أن هذا النص وأشباهه من النصوص المترجمة لا يمكن أن تكون حكما في باب متعلق بالروح والذائقة والطباع وعادات المجتمع وتقاليده مثل النوادر، فالنص أقرب للنكتة منه إلى النادرة، فيه ما يتعجب منه كالنوادر، وهو يمس شيئا من الظرف إلا أنه لا يضحك، فهو قريب جدا من النادرة ولكنها لأمم أخرى، والدليل أن الجاحظ ليس هو من عدها نوادر بل من نقل عنه قوله: (والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة ما منها إلّا وهي غرّة؛ وعين من عيون النوادر)، ولو نظرنا في النص مصنفين لجعلناه في النكت وليس في النوادر، فهل كان الجاحظ يعد الحكمة من النوادر؟ هذا ما لا يمكن ادعاؤه، فهو القائل متحدثا عن طرائق تأليف الكتاب الممتع: (ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى النوادر، ومن النوادر إلى حكم عقليّة، ومقاييس سداد،)، فالنادرة مغايرة للشعر وللخبر وللحكم.

    وممن رأيت أنه يفهم النوادر فهم الجاحظ ابن قتيبة (322هـ) في عيون الأخبار، إذ قال: (اللحن إن مرّ بك في حديث من النوادر فلا يذهبنّ عليك أنّا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده لأنّ الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها، وسأمثل لك مثالا: قيل لمزيد المديني- وقد أكل طعاما كظّه: قِي؛ فقال: ما أقي؟ أقي نقا ولحم جدي؟! مرتي طالق لو وجدت هذا قيأً لأكلته). ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفّيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولاستبشعها سامعها وكان أحسن أحوالها أن يكافىء لطف معناها ثقل ألفاظها)، وكان يذكر في نهاية النوادر ضحك متلقيها، فالنادرة مضحكة.

     وضم ابن عبد ربه(328هـ) عددا من أبواب النوادر في العقد الفريد وغالبا ما نسبها لأصحابها مثل نوادر أشعب، ونوادر الأعمش، إلا بابا واحدا عنونه بـ (نوادر شتى)، ومنه: (وسمع أبو يعقوب الخريميّ منصور بن عمار صاحب المجالس، يقول في دعائه: اللهم اغفر لأعظمنا ذنبا، وأقسانا قلبا، وأقربنا بالخطيئة عهدا، وأشدّنا على الدنيا حرصا! فقال له: امرأتي طالق إن كنت دعوت إلا لإبليس!)، فالنوادر عنده كذلك سرد قصير فيه ما يتعجب منه ويضحك، مع شيء من النقد. 

     وجعل أبو هلال العسكري (395هـ) في كتابه ديوان المعاني النوادر منثورة من دون جمعها في أبواب، وهذا شبيه بفعل الجاحظ، وابن قتيبة، وهو يسير وفق المفهوم العام الذي سار عليه الأدباء، ومن هذا قوله: ((ومن مليح النوادر ما أخبرنا به أبو أحمد عن الصولي عن يموت بن المزرع قال: حضر الجماز عند أبي يوماً، ودخل رجلٌ فقال له: ما أخرك عنا؟ فقال: أصابتني خلفه، أما ترى وجهي؟ فقال الجماز: ما أبين الاختلاف على وجهك.).

     ونجد هذا المفهوم عند محمد بن الحسن بن حمدون البغدادي(562هـ) في التذكرة الحمدونية، وأجده نظر إلى النادرة أنها السرد المتضمن للعجب المضحك، لأنه قال في نهاية باب السياسة أن: (هذا باب جدّ لا مدخل للنوادر فيه، لكنّي تكلفت منه ما شرطته في أول الكتاب من اتباع كلّ باب بنوادره، ووجدت ذلك يتهيأ فيما كان أصله جدا فعدل به إلى الهزل، وأصله هزلا فاستعمل فيه الأدب والسياسة، أو ما حصل الاشتراك بينهما فيه، فحسن إضافته إليه من جهة الاشتراك، واقتصرت منه على ما لا تليق الحال بالزيادة عليه)، وهذا النص يظهر اعتذاره مما فيه، ويبين أنه فهم أن النادرة تقوم على المفارقة والإتيان بالعجيب، ومن النصوص التي جاء بها بعد اعتذاره ذاك قوله: (قال بعض الملوك لوزيره وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلّى به، قال: فإن عدمه؟ قال: حال تستره، قال: فإن عدمه؟ قال: صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد.)، والنص فيه مفارقة مضحكة تعجبا من الفعل، ونقدا له.

     كما جعل الوطواط(718هـ) – في كتابه غرر الخصائص الواضحة - فصلا في نوادر المجانين وهي عنده نصوص قصيرة مضحكات كما هي عند الجاحظ ونجده ينقل عنه بعض نوادره، ومن ذاك (ووقف جعيفران على علي بن إسماعيل الهاشمي فقال له أعطني درهماً فأمر الغلمان بطرده فطردوه فولى وهو ينشد:

قد زعم الناس ولم يكذبوا      أنك من غير بني هاشم

فقال لغلمانه: ردوه وأعطوه درهمين فأخذهما وانصرف وهو ينشد:

قد كذَّب الله أحاديثهم       يا هاشميّ الأصل من آدم)

     وعلى هذا الدرب سار النويري(733هـ) في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب، ويكفي أن ننقل قوله متحدثا عن طويس: (وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثّكالى، وكان ضاحك السنّ)، وهو كذلك لا يجعلها من الأخبار على نهج الجاحظ إذ قال: (كان أبو دلامة رديء المذهب، مرتكبا للمحارم، مضيّعا للفروض، متجاهرا بذلك؛ وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محلّه. وله أخبار وأشعار ليس هذا موضع ذكرها، وإنما نثبت في هذا الموضع ما له من نادرة أو حكاية مستظرفة.)، فالنوادر حكايات مستظرفة، وما هي من الأخبار ولا الأشعار، وجعل بابا في (المجون والنوادر والفكاهات والملح) فيه ثمانية عشر فصلا تحت مصطلح (النوادر) منها ما كان خاصا بنوادر شخص محدد مثل (نوادر مُزبد) ، ومنها وفق صفات أصحابها كنوادر المجانين، ونوادر البخلاء ونوادر الحمقى.

     ويجعل الأبشيهي (852هـ) – في كتابه المستطرف في كل فن مستظرف- فصلا فيه عشرة أبواب في النوادر مقسمة وفق صفات أصحابها، وروى في نوادر القُرَّاء والفقهاء: (ومر بعضهم بقارئ يقرأ { الم (1) غُلِبَتِ الفرس (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}(الروم) فقال له: الروم. فقال له: كلهم أعداؤنا قاتلهم الله.)، فهو يسير على منهج الجاحظ العام وبقية العلماء في فهم النوادر.

الثاني: النادرة بمعنى السرد الحامل للمعاني والأفكار العميقة التي يندر إتيانها، ونجد أسامة بن منقذ (584هـ) يروي – في كتابه لباب الآداب - عددا من النصوص تحت مسمى النادرة، وتحوي سردا فيه حكمة أو مسألة ذات تفكر وطول نظر، وهذه النصوص إلى النكتة أقرب منها إلى النادرة، وفيها شيء من العجب والظرف إلا أنها لا تضحك، ومن هذا، قال: (من نوادر فيثاغورس...مرَّ يوما بقروي عليه ثياب فاخرة وهو يتكلم فيلحن في كلامه، فقال له: يا هذا: إما أن تتكلم كلاما يشبه لباسك، أو تلبس لباسا يشبه كلامك)، وعندما ذكر ابن منقذ هذا النص ذكر قبله نص الجاحظ السابق للممرور اليوناني(ديسيموس)، أي أنه تأثر بالجاحظ وتتبع خطاه في هذا الفهم للنوادر.       

   نخلص من هذا أن في التراث العربي فهما يكاد أن يكون واحدا لمصطلح النادرة بأنها: نص سردي قصير جدا يثير الضحك، ويحمل في طياته نقدا لجانب من جوانب الحياة، وأما ما قرب منها من النكتة فذاك نتاج ترجمة نصوص النوادر عن لغات أخرى.



[1]- هناك عدد من الكتب اللغوية تحت عنوان النوادر، إلا أنها كتب لغوية ليس لها علاقة بما ندرسه فالنوادر اللغوية هي: (عند من ألفوا فيها لا تعدو أن تكون ظواهر لغوية مختلفة تمثل اختلاف اللهجات العربية والبيئة البدوية في الجزيرة العربية في أغلب عمومها وهذه الظواهر ترتدي رداء النزر والقلة ولذلك لم تكن معروفة عند الجميع لعزتها فوسمت حينئذ بميسم النادرة). كتاب النوادر في اللغة، أبو زيد الأنصاري، تحقيق ودراسة: د.محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، مقدمة المحقق ص 48