التنمية المستدامة بين احتياجات الحاضر وحقوق المستقبل

التنمية المستدامة بين احتياجات الحاضر وحقوق المستقبل

 

الاستاذ الدكتور علي درب كسار

قسم الاقتصاد الزراعي

اتخذ مفهوم التنمية المستدامة حيزا مهما منذ ظهوره في العام 1987 وبدأت المجتمعات تتبنى هذا المفهوم عندما ظهرت المخاوف من الاثار السلبية من النمو الاقتصادي والعولمة، فان التسارع الكبير في التصنيع لمواكبة الطلب المتزايد من السلع والخدمات لرفع مستوى الرفاهية كانت له آثار سلبية تمثلت بالتدهور البيئي واستنفاذ الموارد الطبيعية في الوقت الحاضر والتجاوز على حقوق الاجيال القادمة في الاستفادة من هذه الموارد وبكافة انواعها سواء الطبيعية منها والبشرية.

والتنمية المستدامة هي في حد ذاتها عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات وكذلك الأعمال التجارية شرط ان تلبي احتياجات الحاضر لكن من دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها. اي انها تدعو إلى اتخاذ إجراءات من أجل القضاء على الفقر والجوع وتوفير معايير أفضل للتعليم والرعاية الصحية وتحقيق المساواة بين الجنسين وتوفير نمو اقتصادي مستدام وتعزيز فرص العمل ومعالجة مشكلة التغير المناخي والتلوث وغيرها من العوامل البيئية الأخرى التي تؤثر على حياة الناس والحفاظ على صحة الحياة في البر والهواء والبحر.

 من هذا المنطلق كان للدول بمختلف انتماءاتها الاقتصادية وقفة جادة في توفير مستويات اقتصادية تكفل حياة رغيدة للأجيال الحاضرة حيث استهدفت الجهود الرامية إلى بناء نمط حياة مستدام حقًا تتطلب التكامل بين الإجراءات المتخذة في ثلاثة مجالات رئيسة:

أولاً: النمو الاقتصادي والعدالة، إن النظم الاقتصادية العالمية القائمة حاليًا بما بينها من ترابط، تستلزم نهجًا متكاملاً لتهيئة النمو المسؤول الطويل الأمد، مع ضمان عدم تخلف أي دولة أو مجتمع.

ثانياً: حفظ الموارد الطبيعية والبيئية من أجل الأجيال القادمة، من خلال إيجاد حلول قابلة للاستمرار اقتصاديًا للحد من استهلاك الموارد، وإيقاف التلوث، وحفظ المصادر الطبيعية.

ثالثاً: التنمية الاجتماعية: حيث أن جميع شعوب العالم بحاجة إلى العمل والغذاء والتعليم والطاقة والرعاية الصحية والماء. وعند العناية بهذه الاحتياجات، على المجتمع العالمي أن يكفل أيضاً احترام النسيج الثري الذي يمثله التنوع الثقافي والاجتماعي، واحترام حقوق العمال، وتمكين جميع أعضاء المجتمع من أداء دورهم في تقرير مستقبلهم

واختلفت الدول بإجراءاتها لتحقيق اهداف التنمية المستدامة غير انها تركزت في اجراءات متشابهة قد تختلف باختلاف اوضاع الدول ، فلا يمكن للدول المتقدمة ان تكافح الفقر والجوع في بلدانها التي تتميز بارتفاع مستوى الدخل لأفرادها ، لكن ذلك يظهر بشكل جلي في الدول النامية والفقيرة والتي من اجراءاتها ان توفر فرص عمل للمستفيدين فضلا عن تحقيق الامن الغذائي والتغذية الجيدة والنهوض بالزراعة المستدامة. وفي ما يتعلق بالصحة الجيدة والرفاه ينبغي ان يكون الاهتمام بالصحة النفسية وتعزيز الرضاعة الطبيعية وفرض ضرائب على منتجات التبغ ومشروبات الطاقة والمشروبات الغازية.

وفيما يتعلق بالتعليم الجيد ينبغي استهداف الطفولة المبكرة وتحديد سياسات التعليم المدمج الذي يركز على توفير التعليم الجيد منذ الصغر. وقدر تعلق الامر بالطاقة النظيفة والنظافة الصحية ، فان التوعية بخفض مستويات الطلب على الطاقة والمياه واتخاذ استراتيجية الامن المائي هو من اولويات تحقيق التنمية المستدامة. وتبرز اهمية تقديم حوافز لتشجيع الاعتماد على الطاقة النظيفة في كافة المجالات ولا سيما قطاع النقل.

مما تقدم ينبغي ان ننظر الى الامر من ناحيتين هما : احتياجات الاجيال الحاضرة و حقوق اجيال المستقبل.

فلا يعني ان توجه موارد المجتمع للأجيال الحاضرة وتنسى ان لهذا المجتمع الحاضر ابناءا واحفادا لم يولدوا بعد ولكنهم سيكونون نواة المجتمع في المستقبل ، فلا ينبغي ان يكبروا ويجدوا موارد المجتمع قد استنفذتها الاجيال السابقة.

وفي هذا الصدد يمكننا ان نلاحظ ان بعض الدول قد اجلت استهلاكها من بعض مواردها واحتفظت بها للمستقبل ومنها النرويج والتي تحتفظ بآبار نفط مقفلة للأجيال القادمة لان لديها في الوقت الحاضر موارد هائلة  تستطيع بها ان توفر حياة رغيدة لأجيالها الحاضرة. ونستذكر من التاريخ قصصا رائعة تندرج ضمن موضوع مقالنا ، وهي مصر عندما تم اكتشاف منجم للذهب ايام الحكم الملكي ، فلم يتم استغلاله آنذاك ليحتفظوا به للمستقبل.

وعندما يكون هدف الدولة تنمية مجتمعاتها فلا يعني ذلك انها تهمل المستقبل سواء  بالموارد والطاقة والمناخ ، فعليها ان تستهلك ما لديها من موارد بشكل رشيد فضلا عن ان تسعى لتنمية هذه الموارد واكتشاف اخرى حتى تتذكر الاجيال القادمة ان من سبقوهم كانوا امناء على مواردهم ليكونوا هم بدورهم امناء ايضا عليها ، ويبقى المجتمع نافعا لأفراده حاضرا ومستقبلا.