عولمة نظام تصنيف التربة

عولمة نظام تصنيف التربة

 

     أ. د. مثنى خليل إبراهيم الرفاعي

يُعد علم الجغرافية من أقدم العلوم – ومنها ومن أدب الرحلات نشأ علم الجيولوجي، ومن الجغرافية والجيولوجي نشأ علم التربة كوليد حديث يجمع منهجية كلا العلمين على حد سواء

وتعتبر التربة بالمفهوم الجيولوجي الطبقة المفككة من الصخور وهي نواتج تجوية وبالمفهوم الجغرافي ما هي إلا عن نواتج تجوية صخور تتوزع على متطورات أرضية تتغاير صفاتها بتغاير موقعها الجغرافي وتأثرها بعوامل البيئة المحيطة بها وما أن انتبه العالم بكون التربة مورداً اقتصادياً هاماً ومعين لا ينضب . وإن حياة الشعوب تتوقف على مسافة (12 انج) عمقاً فيها كونهُ العمق اللازم لنمو وإنتاج معظم المحاصيل الاقتصادية والاستراتيجية التي تحتاجها الشعوب في تغذيتها ونموها الاقتصادي.

ولذا أنتبه العالم والمهتمين بشأن هذا المورد الاقتصادي الى تنظيم الفعاليات فيه والحفاظ عليه من خلال وضع برامج إدارية وبرامج صيانة لهذا المورد ومن خلال المعلومات التي تقدمها فعاليات مسح التربة وتوصيفها وتصنيفها، ولذا انحسرت كل العلوم المتعلقة بهذا المورد بين علمي مسح التربة كرأس الهرم وإدارة التربة كقاعدة الهرم لأن الأول ينظم المعلومات والبيانات الخاصة بكل تربة من حيث صفاتها وخواصها وتحديد مشاكلها وبيان مدى ملاءمتها والثاني يهتم بوضع البرامج الإدارية الهامة للحلول والمشاكل التي تعاني منها، يهدف زيادة الإنتاج في وحدة المساحة مع الحفاظ على التربة من التدهور .

ومنذ أن برزت بوادر الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية بدأت بوادر ظهور ما يسمى بالعولمة كمرحلة متطورة للهيمنة الرأسمالية الغريبة على العالم .. وإن لفظة العولمة هي ترجمة للمصطلح الإنكليزي Globalization ويقصد بترجمتها بالكونية والآخر بالكوكبة وبعضهم يطلق عليها بالشوملةّ .. إلا أنه اشتهرت بين الباحثين والكتاب من أهل الساسة والاقتصاد والإعلام باسم العولمة.

إن تحليل كلمة العولمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله .

ولقد كثرت الأقوال حول تعريف معنى العولمة فلم يكن هنالك تعريفاً جامعاً لكل الاحتمالات مانعاً للاختلاطات وذلك لغموض مفهومها ولاختلاف وجهة نظر الباحثين، ولكن يمكن تقسيم تعريفاتها إلى كونها ظاهرة اقتصادية، وهيمنة أمريكية، وثورة تكنولوجية واجتماعية .

وإذا ما أردنا أن نعطي تعريفاً شاملاً للعولمة تستطيع القول بأنها: صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل الإعلامية، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم .

ويخطئ البعض عند اقتران ظاهرة العولمة بمفهوم العالمية ولون العولمة مأخوذة أصلا من العالم ... فالعالمية هي إثراء للفكر وتبادل للمعرفة مع الاعتراف المتبادل بالآخر دون فقدان الهوية الذاتية، أما العولمة فهي انسلاخ عن قيم ومبادئ وتقاليد وعادات الأمة وإلغاء شخصيتها وكيانها وذوبانها في الآخر فهي تقوم على تكريس إيديولوجيا " الفردية المستسلمة" وتكريس النزعة الأنانية وتعمل على تكريس الحياد وهو التحلل من كل التزام أو ارتباط بأي قضية .

ومن بزوغ هذه الظاهرة ومحاولة سيطرة المعسكر الرأسمالي على اقتصاديات العالم – تنبه العلماء الروس منهم روخنهوف وسيبرستيف وبدأوا بمحاولاتهم الأولى في وضع أسس تصنيف ترب الاتحاد السوفيتي – وتبعهم دوكاشيف الذي وضع اللبنة الأولى لنظام تصنيف التربة الروسي ... وأخذ بالظهور والانتشار . انتبه العلماء الأمريكان إلى ذلك المورد الاقتصادي الهام.. وتم نقل ذلك النظام وتطبيقهُ على ترب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الخاضعة لهيمنتها . وبدأت بوادرهم يوضع أول كتاب عن التربة بعنوان جيولوجيا التربة للعالم هلكارد وهو جيولوجي، تم تتبعه وتني ونشر كتابه بعنوان Soil and men ثم قدم كل من كاي سمث النظام الوراثي القديم عام 1938 وبعدها .

قدم وايت سايد النظام الأمريكي الحديث للعام 1975 وتم تعميمهُ على دول المعمورة إلا أن الدول الأخرى تنبهت لذلك وقامت بإيجاد أنظمة تصنيفية خاصة لتربها ومنها نظام أوبيرت الفرنسي ونظام ميكذماوزن الألماني ونظام دنجهوفر الأسترالي .

وبقيت الدول الأخرى ومن يتمحور مع الجانب الأمريكي ينطبق النظام الأمريكي ومنها المنطقة العربية عموماً .إذ عملت الولايات المتحدة الأمريكي من فرض تطبيق نظامها وإجبار الدول على تطبيقه من خلال معهد المسح العالمي في بلجيكيا وقامت بإرسال الباحثين لإجراء مسوحات في أقطار عربية عدة ومنها تم إرسال الباحث بيورنك إلى العراق ومهجوري إلى إيران وميوري إلى سوريا وتم أخذ تتابع بحوثهم ودراساتهم فضلاً عن تشجيع الطلبة عن طريق البعثات والزمالات الدراسية من خلال المعهد المذكور بالدراسة على ترب بلدانهم وتطبيق النظام الأمريكي والزامهم به كبديل عن النظام الروسي، وكان الهدف من ذلك هو التحكم بأهم مفصل من مفاصل الاقتصاد الزراعي في تلك البلدان من خلال ضرب عمليات المسح في تلك البلدان وإرباك وتعويق البرامج الإدارية الهامة التي يتطلبها الانتاج، كي تبقى اقتصاديات تلك الدول تدور في محور الاقتصاد الأمريكي وتبعيته .

لقد استمر ولا زال الحال مستمراً في تطبيق الناظم الأمريكي الحديث لوصف التربة بالرغم من كل محاولاته في التحديث والإضافة منذ عقد الستينات من القرن الماضي ولحد الآن .. إلا أنه ومن خلال التطبيق ينتابه نوع من الغموض وعدم الوضوح في تطبيقه على واقع الترب العراقية ومن مشاكله الملموسة هو تحول ترب رتبة الانتيسول Entisols إلى الاريديسولز Aridisols الجافة، وانضمام سلاسل ترب في عوائل إدارية في مواقع وعدم انضمامها في مواقع أخرى مما جعل هذا المفصل في النظام، براكماتياً .

فضلاً عن المحددات الكميّة في تشخيص بعض الآفاق التشخيصية السطحية وتحت السطحية، والتي لا تنطبق مواصفاتها وواقع تربة بلدنا، والبلدان الأخرى وقد تنبه لهذا الأمر أخيراً الباحث بيورتك 1982 وأطلق مقولته الشهيرة .

" أنه يجب أن يكون لكل بلد نظامه التصنيفي الخاص به "