مقال للدكتور ياسر احسان

مقال للدكتور ياسر احسان

 وقفات تدبرية في قصة البقرة

(الجزء الأول)

In the story of Al Baqarah, deliberate pauses

 

( Part one )

أ.م.د. ياسر إحسان رشيد

جامعة الأنبار/ كلية العلوم الإسلامية

قسم التفسير وعلوم القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أجمعين.

وبعد: فهذه وقفات تدبرية في قصة عظيمة ذكرت في موضع واحد من القرآن الكريم؛ إنها قصة البقرة التي سميت أطول سورة في القرآن باسمها (سورة البقرة)، وهي من الحوادث التي حدثت لبني إسرائيل.

وقد تجسدت في القصة بعض صفات بني إسرائيل، كالتشبثِ بالدنيا وتعلقِ قلوبهم بها، وتعنتِهم مع أوامر الله وتباطئِهم في الامتثال لها.

وهذه وقفات مع هذه السورة، وهي محاولة لتفهم شيء من معانيها، وبيان بعض من مواعظها وعبرها، والله الموفق: 

الحكمة من أمر الله تعالى بني إسرائيل بذبح البقرة:

لما طلب بنو إسرائيل من رسول الله موسى عليه السلام أن يبين لهم قاتل النفس حينما اختلفوا في هذا، أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة، وكان من الممكن أن يأمر الله نبيه موسى عليه السلام بأن يمسح على الميت فيقوم حياً، ولكن الله أمر بني إسرائيل بذبح بقرة، ولعل من حِكَم هذا الأمر أن القصة وردت في سياق بيان دناءة بني إسرائيل وتعلقهم بالدنيا وإيثارهم لها على رضا الله تعالى.

فقد ذكر الله تعالى طلب بني إسرائيل من موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها فقال لهم موسى منكراً عليهم: ((أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)) هذا هو حال نفوس بني إسرائيل: إيثار الدنيء وتعلقهم بسفاسف الدنيا وإيثار شهواتهم. ثم ذكر الله تعالى أخذه الميثاق المغلظ على بني إسرائيل بالعمل بما آتاهم في كتبه من الشرائع، ثم ذكر تحايلهم على أوامر الله ونواهيه فذكر اعتداء الذين اعتدوا منهم يوم السبت فنسخهم الله قردة خاسئين.

في هذا السياق وردت قصة البقرة، حيث وُظِّفت مناسبة حادثة القتل التي حصلت واهتز لها مجتمع بني إسرائيل في حينها حتى جاؤوا إلى موسى عليه السلام ليطلبوا منه أن يبين لهم القاتل. فنفوس الناس في بعض المناسبات كأوقات الابتلاءات والشدة والفتن تكون أكثرَ استعداداً لتقبل الحق والالتزام بشرع الله. فأمرهم الله بذبح البقرة، وهو سبحانه يعلم أنهم سيشددون على أنفسهم فيشدد عليهم ليؤدبهم وليقطع تعلق قلوبهم بالدنيا، فكأن ذبحَهم البقرةَ ذبحٌ للدنيا في قلوبهم. ومن غايات القصة كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين بيانُ تأديب الله لنبي إسرائيل لسوء خلقهم وقبح طبعهم، فمن طرق التأديب الحمل على عمل شاق إذا بدر من الطالب أو الولد أو غيـرِهما من الذي يؤدَّبون ما لا يَليق.

قول سيدنا موسى  عليه السلام (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين):

 الجهل بلاء يستعاذ منه، والاستهزاء بالآخرين من الجهل؛ فما دلالة جواب موسى عليه السلام بالاستعاذة من كونه من الجاهلين على قول قومه له (أتتخذنا هزواً)؟

المقصود بالجهل الذي استعاذ منه موسى عليه السلام السفهُ وخفة العقل التي تسبب إساءة التصرف والاستهزاء بالآخرين في وقت ينبغي الجد فيه، فليس الموقف موقفَ استهزاء.

وفي قول موسى عليه السلام (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) دليل على أن الجهل بجميع معانيه وأنواعه أمره عظيم وهو بلاء يُستعاذ منه، ولا يقي شره إلا الله وحده، فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله سبحانه كما قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره، لذلك استعاذ موسى عليه السلام بالله من الجهل.

ونلاحظ أن موسى عليه السلام قال: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)  ولم يقل مثلاً: أعوذ بالله أن أستهزئ، لبيان أن الهزء في وقت الجد سفهٌ وخفةُ عقلٍ لا تليق بحاله. كما نلاحظ أن موسى عليه السلام قال: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) ولم يقل مثلاً: أعوذ بالله من أن أجهل؛ لأن قوله (أكون من الجاهلين) أبلغ من قول (أن أجهل)؛ فموسى عليه السلام أراد أن يستعيذ من أن يكون معدوداً في زمرة الجاهلين مطلقاً، فكأنه استعاذ من الجهل في جميع الأوقات والأحوال وليس في هذه الحالة، حالة مخاطبته لبني إسرائيل فحسب.

هذا ما أردتُ بيانه هنا، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.