النزاهة ومحاربة الفساد في ضوء الشريعة الاسلامية

النزاهة ومحاربة الفساد في ضوء الشريعة الاسلامية

 

النزاهة ومحاربة الفساد في ضوء الشريعة الاسلامية

إعداد أ.د. مازن مزهر ابراهيم الحديثي

إن الإسلام اعتنى بكل ما يحقق مصالح البشرية، ويحفظ لهم الحقوق الخاصة والعامة، ومن ذلك محاربة الفساد، والقضاء على الطرق الموصلة إليه، والعمل على تحقيق النزاهة والمصداقية والأمانة والرعاية لكل ما يوكل إلى الأشخاص من المناصب والوظائف الإدارية. فنجد الفقه الإسلامي قد وضع العقوبات المناسبة لكل أنواع الفساد، وبين حُرمتها وأضرارها على المجتمع، وعلى المصالح العامة.

فمتى ما ثبت ارتكاب الموظف العام مخالفة فعلية فيما هو تحت رعايته، وتحققت لديه أركان المخالفة، فإنه يجب في الفقه الإسلامي تأديبه واتخاذ العقوبة المناسبة ضده، لأن العقوبة شرعت لتحقيق مصلحة عليا تعود على كافة الناس، من صيانة الأنساب، والأموال، والعقول، والأعراض، وزجراً عما يتضرر به العباد من أنواع الفساد.

     فإن الحاجة إلى إنزال العقوبات بالمخالفين المفسدين إجراء لازم، وواجب شرعي وزجرا لكل من تسول له نفسه الإفساد، ليعتبر من لا يعرف إلا العقوبة والجزاء رادعاً وحاكماً لتصرفاته المخالفة لقانون عمله، وما تعهَّد به من التزامات حيال وظيفته.

وتميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع والقوانين الوضعية، بكونها منهج حياة شامل، لا تفصل بين الشأن العام والشأن الخاص، بل تقيم بينهما تكاملاً بحيث تجعل كل واحد منها يؤازر الآخر، في سبيل رعاية المصالح ودرء المفاسد .

تعريف ومعنى النزاهة لُغةً واصطِلاحاً :

النَّزاهةُ لغةً: أصلُ هذه المادَّةِ يدُلُّ على بُعدٍ في مكانٍ وغيرِه، فالنَّزاهةُ مَصدَرُ نَزُهَ نزاهةً، وتنَزَّه تنزُّهًا: إذا بَعُد، ونزَّه نفسَه عن القبيحِ: نحَّاها، والنَّزاهةُ: البُعدُ عن السُّوءِ. وإنَّ فلانًا لنزيهٌ كريمٌ: إذا كان بعيدًا عن اللُّؤمِ. ويقالُ: رجلٌ نزيهُ الخُلُقِ: بعيدٌ عن المطامِعِ الدَّنيَّةِ. والتَّنَزُّهُ: أن يرفَعَ نفسَه عن الشَّيءِ تكَرُّمًا ورغبةً عنه. وفلانٌ يتنَزَّهُ عن مَلائمِ الأخلاقِ، أي: يترفَّعُ عما يُذَمُّ منها  .

النَّزاهةُ اصطلاحًا: قال المُناويُّ: (النَّزاهةُ: اكتِسابُ المالِ من غيرِ مَهانةٍ ولا ظُلمٍ، وإنفاقُه في المصارِفِ الحميدةِ) . وقال أيضًا: (النَّزاهةُ: البُعدُ عن السُّوءِ). وقال أبو طالبٍ المكِّيُّ: (ومعنى التَّنزُّهِ: التَّباعُدُ من الدَّناءةِ والأوساخِ)  .

الفَرْقُ بَيْنَ النَّزاهةِ والعِفَّة : قال أبو حيَّانَ التَّوحيديُّ: (قُلتُ لبعضِ العُلَماءِ: العِفَّةُ والنَّزاهةُ خَصلةٌ واحدةٌ. فقال لي: ظَلمتَ, فالعِفَّةُ: الإمساكُ عن المحظورِ، والنَّزاهةُ: الوقوفُ عن المباحِ، وفي العِفَّةِ ذَبٌّ عن الدِّينِ، وفي النَّزاهةِ حِفظٌ للمروءةِ)  .

    الأدلة على الأمر بالنزاهة في كل المجالات والنواحي وكيفية محاربة الفساد بأوجهه المختلفة في القرآن الكريم والسنة النبوية والأثار عن السلف الصالح والعلماء ؟

 

أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان جملة من الشهوات والغرائز والمشاعر والأحاسيس، ليعيش المرء مستمتعا بحياته وأحواله، دون الإضرار بغيره من البشرِ، ولذلك لم يُترك له حرية التصرف وإطلاق العنان للشهوة والغريزة بل ضبطها الشارع وقيّدها وفق منظومة من الشرائع والأحكام التي تربّي النفس وتزكّيها وتبعدها عن الطمع والجشع والخوض في تجارب حيوانية من شأنها أن ترسخ مفهوم القوّة والغطرسة، وتقضي على كل قيمة عالية ومبدأ سامٍ، ويعترف الإسلام بالشهوة ولكنه يضبطها، ويعترف بالغريزة ولكنه يقيّدها لأن إشباعها يتقارب مع مفهوم الحيوان وتقييدها وضبطها يتقارب مع مفهوم الإنسان، يقول الحق تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). ورغم كل التدابير الشرعية والقانونية التي تجرّم الفساد بكل أنواعه لأنه خلق ذميم يساهم في إحداث خلل في التركيبة السكانية من حيث الفقر والغنى، ويشجع على انتشار الجريمة بكافة أوجهها من سرقة واعتداءات واغتصابات وزِنًا وعلاقات محرّمة شرعا وقانونا، إلا أن الناس كالأمواج ترتفع أحيانا وتهدأ أحيانا أخرى، ترتفع عند الحاجة والطمع والجشع وتنخفض عند إحياء الوازع الديني والضمير المهني والنفس اللوامة التي أقسم بها الله عزّ وجل في سورة القيامة.

اولا: الأدلة من القرآن :  وإذا رجعنا إلى الكتاب العزيز سنجد كلمة فساد تكرّرت كثيرا وبأوجه متعددة تبيّن محاربة المولى عز وجل الشديدة لهذا النوع من الصفات من ذلك مثلا قوله تعالى: }وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا{ وقول الحق تبارك وتعالى: }قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين{، وقوله أيضا: }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ{. فقد يستمتع الفاسد بفساده كالراشي والمرتشي بالرشوة، ويتلذذ العاصي بالمعصية، وينتشي الظالم بما يقوم به من قهر للآخرين وحرمان من الحقوق وتعدٍّ على الممتلكات وكذلك من يغلل ويأخذ شيء بلا حق او بلا ان يقدم الواجب المكلف به قال تعالى: }وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{ ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. فدلالة كون الغلول من الكبائر الكتاب والسنة والإجماع ولكنه لا يدري ما يخبّئه له القدر

-قال U}وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{  [المدثر: اية 4] قال ابنُ عبدِ البَرِّ: تأوَّله جمهورُ السَّلَفِ من أنَّها طهارةُ القلبِ، وطهارةُ الجَيبِ، ونزاهةُ النَّفسِ عن الدَّنايا والآثامِ والذُّنوبِ.

- وقال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{ [البقرة: 222] . قال الرَّازي: أمَّا قولُه تعالى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ففيه وجوهٌ أحَدُها: المرادُ منه التَّنزيهُ عن الذُّنوبِ والمعاصي، وذلك لأنَّ التَّائِبَ هو الذي فعَلَه ثمَّ ترَكَه، والمتطَهِّرُ هو الذي ما فعَله تنزُّهًا عنه، ولا ثالثَ لهذينِ القِسمَينِ، واللَّفظُ محتَمِلٌ لذلك؛ لأنَّ الذَّنبَ نجاسةٌ رُوحانيَّةٌ؛ ولذلك قال: }إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ{ [التوبة: 28] ، فتركُه يكونُ طهارةً روحانيَّةً).

- وأمر الله تعالى على وجوبِ النَّزاهةِ في القضاءِ والحُكمِ بَيْنَ النَّاسِ فقال: }إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا{ [النساء: 105] . تشريفٌ للنَّبيِّ r وإرشادٌ إلى ما يجبُ أن يكونَ عليه الحاكِمُ أو القاضي من عدالةٍ ونزاهةٍ.

- وقال تعالى في حثِّ أولياءِ اليتامى من الأغنياءِ على التَّنزُّهِ عن أموالِ اليتامى: }وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ{ [النساء: 6]. أي مَنْ كَانَ منكم أيُّها الأولياءُ غَنِيًّا، أي: غيرَ محتاجٍ إلى شيءٍ من مالِ اليتيمِ الذي تحتَ ولايتِه فَلْيَسْتَعْفِفْ، أي: فليُعِفَّ نفسَه عن الأكلِ من مالِه، وليتنَزَّهْ عن أكلِه، وليَقنَعْ بما آتاه اللهُ من الرِّزقِ، إشفاقًا على اليتيمِ، وإبقاءً على مالِه، ولا يَنقُصْ منه شيئًا قليلًا ولا كثيرًا.

- وقال تعالى:  }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{ [المؤمنون: 51] . قال ابنُ عاشورٍ: والغَرَضُ من هذا بيانُ كرامةِ الرُّسُلِ عِندَ اللهِ ونزاهتِهم في أمورِهم الجُسمانيَّةِ والرُّوحانيَّةِ، فالأكلُ من الطَّيِّباتِ نزاهةٌ جِسميَّةٌ، والعَمَلُ الصَّالحُ نزاهةٌ نفسانيَّةٌ.

- قال تعالى:  }وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الحشر: 9] . قال البِقاعيُّ: ذِكرُ النَّفسِ دليلٌ على أنَّهم في غايةِ النَّزاهةِ من الرَّذائِلِ؛ لأنَّ النَّفسَ إذا طَهُرت كان القَلبُ أطهَرَ.

وفي الجانب الاقتصادي، نرى مدين وأصحاب الأيكة الذين أمرهم النبي الكريم شعيب أن لا يبخسوا الناس حقوقهم، ولكنهم أصروا على موقفهم طمعا وجشعا وحبّا في الربح على حساب الناس وحقوقهم، فجاءهم العذاب من حيث لا يشعرون فانظروا إلى هذه الآيات التي تصوّر المشهد: "كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُون فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ".

-وفي الجانب القضائي قال تعالى ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)  وقال تعالى (لا يجرمنكم سنآن قوم على ان لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى)  

    ثانياً: الأدلة من السنة:

-عن النَّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ r يقولُ: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلَمُها كثيرٌ من النَّاسِ، فمن اتَّقى المشَبَّهاتِ استبرأ لدينِه وعرضِه، ومن وقَع في الشُّبُهاتِ كراعٍ يرعى حولَ الِحمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه محارِمُه، ألا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلَحَ الجسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهي القَلبُ). قال ابنُ رجبٍ ومعناه: (من اتَّقى الأمورَ المُشتَبِهةَ عليه التي لا تتبيَّنُ له أحلالٌ هي أو حرامٌ، فإنَّه مستبرئٌ لدينِه، بمعنى: أنَّه طالبٌ له البراءَ والنَّزاهةَ ممَّا يُدنِّسُه ويَشينُه)  .

- وعن عليِّ بنِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ صفيَّةَ زوجَ النَّبيِّ r أخبرتْه أنَّها جاءت رسولَ اللهِ r تزورُه في اعتكافِه في المسجِدِ في العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ، فتحدَّثَت عنده ساعةً، ثمَّ قامت تنقَلِبُ، فقام النَّبيُّ r معها يَقلِبُها، حتَّى إذا بلغت بابَ المسجِدِ عندَ بابِ أمِّ سَلَمةَ مرَّ رجلانِ من الأنصارِ، فسَلَّما على رسولِ اللهِ r، فقال لهما النَّبيُّ r: على رِسْلِكما  ، إنما هي صفيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ. فقالا: سبحانَ اللهِ، يا رسولَ اللهِ! وكَبُر عليهما. فقال النَّبيُّ r: إنَّ الشَّيطانَ يَبلُغُ من الإنسانِ مَبلَغَ الدَّمِ، وإني خَشيتُ أن يقذِفَ في قلوبِكما شيئًا) . في الحديثِ تأكيدُ الابتعادِ عن مواضِعِ الرِّيبةِ. قال الماوَرْديُّ: (هذا رسولُ اللهِ r، وهو أبعدُ خَلقِ اللهِ من الرَّيبِ وأصونُهم من التُّهَمِ... فكيف من تخالجَت فيه الشُّكوكُ، وتقابلت فيه الظُّنونُ؟ فهل يعرى مَن في مواقِفِ الرَّيبِ من قادحٍ محَقَّقٍ، ولائمٍ مُصَدَّقٍ؟!) .

- عن أبي الحوراءِ السَّعديِّ قال: (قُلتُ للحَسَنِ بنِ عَليٍّ: ما حَفِظتَ من رسولِ اللهِ r؟ قال: حَفِظتُ منه r: دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك). فالنَّزاهةُ أن نصونَ النَّفسَ عن مواقِفِ الرِّيبةِ، ونتنَزَّهَ عن مساوئِ الأخلاقِ، ونترفَّعَ عمَّا يُذَمُّ منها. أي: اترُكْ ما يَلحَقُك به رَيبٌ وشَكٌّ وقَلَقٌ إلى شيءٍ لا يَلحَقُك به ريبٌ ولا قَلَقٌ، وهذا الحديثُ من جوامِعِ الكَلِمِ، وما أجودَه وأنفَعَه للعبدِ إذا سار عليه! فالعبدُ يَرِدُ عليه شُكوكٌ في أشياءَ كثيرةٍ، فنقولُ: دَعِ الشَّكَّ إلى ما لا شَكَّ فيه حتَّى تستريحَ وتَسلَمَ، فكُلُّ شيءٍ يَلحَقُك به شَكٌّ وقلَقٌ ورَيبٌ، اتركْه إلى أمرٍ لا يلحَقُك به ريبٌ، وهذا ما لم يَصِلْ إلى حَدِّ الوَسواسِ، فإن وَصَل إلى حَدِّ الوَسواسِ فلا تلتَفِتْ له.

- عن حَكيمِ بنِ حزامٍ t قال: (سألتُ رسولَ اللهِ r فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ قال: يا حكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فمَن أخَذه بطِيبِ نَفسٍ بورِكَ له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى). قال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: إشرافُ النَّفسِ تطَلُّعُها إليه وتعَرُّضُها له، وطمَعُها فيه. وأمَّا طِيبُ النَّفسِ فذكَر القاضي فيه احتمالينِ، أظهَرُهما: أنَّه عائِدٌ على الآخِذِ، ومعناه: مَن أخَذَه بغيرِ سُؤالٍ ولا إشرافٍ وتَطَلُّعٍ، بوركَ له فيه. والثَّاني: أنَّه عائدٌ إلى الدَّافعِ، ومعناه: من أخَذَه ممَّن يدفَعُ مُنشَرِحًا بدَفعِه إليه طيِّبَ النَّفسِ، لا بسؤالٍ اضطَرَّه إليه، أو نحوِه ممَّا لا تطيبُ معه نَفسُ الدَّافِعِ). وفي هذا الحديثِ: الحثُّ على النَّزاهةِ، والقناعةِ والرِّضا بما تيسَّرَ، وإن كان قليلًا، والإجمالِ في الكَسبِ، وأنَّه لا يغتَرُّ الإنسانُ بكثرةِ ما يحصُلُ له بإشرافٍ ونحوِه؛ فإنَّه لا يبارَكُ له فيه.

- وعن أبي حميدٍ السَّاعديِّ t أنَّ النَّبيَّ r قال: (لا يحِلُّ للرَّجُلِ أن يأخُذَ عصا أخيه بغيرِ طِيبِ نَفسِه) وذلك لشِدَّةِ ما حرَّم رسولُ اللهِ r من مالِ المُسلِم على المُسلِمِ. والحديثُ فيه دلالةٌ على تحريمِ مالِ المُسلِمِ إلَّا بطيبةٍ منه وإن قَلَّ. ومن الأحاديث الأخرى التي تحث على النزاهة ومحاربة الفساد: وقول النبي r (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) وقول النبي r ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وقول النبي r (الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

وقول النبي r (من غشنا فليس منا). وقول النبي r ( ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه ريح الجنة).

ثالثاً: الأدلة من أقوالِ السَّلَفِ والعُلَماءِ:

- قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (إذا كان في القاضي خمسُ خِصالٍ فقد كَمَل: عِلمٌ بما كان قَبلَه، ونزاهةٌ عن الطَّمَعِ، وحِلمٌ عن الخَصمِ، واقتداءٌ بالأئمَّةِ، ومشاورةُ أهلِ العِلمِ والرَّأيِ)  .

- وقال الماوَرْديُّ: والنَّفسُ الشَّريفةُ تطلُبُ الصِّيانةَ، وتراعي النَّزاهةَ، وتحتَمِلُ من الضُّرِّ ما احتمَلَت، ومن الشِّدَّةِ ما طاقت، فيبقى تحمُّلُها ويدومُ تصَوُّنُها.

- وقال ابنُ الجوزيِّ: (دليلُ كَمالِ صورةِ الباطِنِ حُسنُ الطَّبائِعِ والأخلاقِ؛ فالطَّبائعُ: العِفَّةُ والنَّزاهةُ والأنَفةُ من الجَهلِ، ومباعَدةُ الشَّرَهِ. والأخلاقُ: الكَرَمُ والإيثارُ وسَترُ العُيوبِ، وابتداءُ المعروفِ، والحِلمُ عن الجاهِلِ؛ فمَن رُزِق هذه الأشياءَ رَقَّتْه إلى الكَمالِ، وظَهَر عنه أشرَفُ الخِلالِ، وإن نقَصَت خَلَّةٌ أوجبت النَّقصَ)  .

- وعن محمَّدِ بنِ موسى بنِ أبي الوزيرِ البغداديِّ، قال: (كنَّا عِندَ أبي حَفصٍ الكَرمانيِّ وعليها والٍ يُعطي الأدباءَ والمحَدِّثين، فقيل لأبي حفصٍ: لو أتيتَ هذا الرَّجُلَ، قال: ما أصنَعُ به؟ قال: تستميحُه، قال: عِزُّ النَّزاهةِ أشهى إليَّ من طَلَبِ الفائدةِ..)  .

- وقال ابنُ السَّمَّاكِ: (النَّاسُ ثلاثةٌ: زاهِدٌ، وصابرٌ، وراغبٌ؛ فأمَّا الزَّاهِدُ فأصبح قد خرَجَت الأفراحُ والأحزانُ من صَدرِه عن اتِّباعِ هذا الغُرورِ، فهو لا يفرَحُ بشيءٍ من الدُّنيا أتاه، ولا يحزَنُ على شيءٍ من الدُّنيا فاته، لا يبالي على عُسرٍ أصبح أم على يُسرٍ، فهذا المبَرِّزُ في زُهدِه، وأمَّا الصَّابرُ فرجُلٌ يشتهي الدُّنيا بقَلبِه، ويتمَنَّاها بنفسِه، فإذا ظَفِر بشيءٍ منها ألجَمَ نفسَه عنها، كراهةَ شَتاتِها وسوءِ عاقبتِها، فلو تَطَّلِعُ على ما في نفسِه عَجِبتَ من نزاهتِه وعِفَّتِه، أمَّا الرَّاغبُ فلا يبالي من أين أتَتْه الدُّنيا، ولا يبالي دُنِّسَ فيها عِرضُه، أو وُضِع فيه حَسَبُه، أو جُرِحَ دِينُه، فهؤلاء في غَمرةٍ يَضطَرِبون، وهؤلاء أنتَنُ مِن أن يُذكَروا!)  .

- وقال الخَطيبُ البغداديُّ: (والواجِبُ أن يكونَ طَلَبةُ الحديثِ أكمَلَ النَّاسِ أدَبًا، وأشَدَّ الخَلقِ تواضُعًا، وأعظَمَهم نزاهةً وتدَيُّنًا، وأقَلَّهم طَيشًا وغَضَبًا؛ لدوامِ قَرعِ أسماعِهم بالأخبارِ المشتَمِلةِ على محاسِنِ أخلاقِ رسولِ اللهِ r وآدابِه، وسيرةِ السَّلَفِ الأخيارِ من أهلِ بيتِه وأصحابِه، وطرائِقِ المحَدِّثين، ومآثِرِ الماضين، فيأخُذوا بأجمَلِها وأحسَنِها، ويَصدِفوا عن أرذَلِها وأدوَنِها)  .

- وقال بعضُ الحُكَماءِ: (أصلُ المحاسِنِ كُلِّها الكَرَمُ، وأصلُ الكَرَمِ نزاهةُ النَّفسِ عن الحرامِ، وسَخاؤها بما تملِكُ على الخاصِّ والعامِّ، وجميعُ خِصالِ الخيرِ من فُروعِه) .

خلاصة المحاضرة : وبعد الاطلاع على هذه الأمثلة الدامغة في القرآن الكريم والسنة النبوية واقوال السلف والعلماء نلاحظ حلول ووقوع العقوبات الربانية للأمم السابقة حين وقوعها بالفساد وبعدها عن النزاهة، فنجد تواصل المشهد حتى مع أمّة محمد عليه الصلاة والسلام في كل زمن وفي أي مكان إذا اتبعت أساليب الأمم السابقة، وليس هناك شيء يمنع المولى تبارك وتعالى من أن يعاقب الناس على مخالفاتهم بعد التنبيه والتذكير، لذلك كان الكتاب المبين واضحَ المنهج في هذه القضية، حيث يؤكد أن الإنسان قد يخطئ وهذا وارد جدا ولا يعاقَب على خطئه، بل من الظلم الشديد معاقبته على خطئه دون إعطائه فسحةً من الوقت للتأمل والمراجعة والمحاسبة، فكان أولا يأتي النهيُ الشديد وبيان آثاره المدمرة على الفرد والمجتمع، ثم يأتي التذكيرُ بالأمم التي أصابها العذاب بعد أن أصرّت على المعصية، وبعد أن عارضت أنبياءها، واستمرأت المعصية واستخفت بالكتب المنزلة، فإذا تاب الإنسان من ذنبه قبِل الله توبته، وإذا تجاهل كل ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه مما أصابه وما سيصيبه، لأن الله تبارك وتعالى يُمْهل ولا يُهْمل.

وعلى هذا فإن الفساد المستشري في كل بقاع العالم مهما كان وجهه سيواجه بالتذكير من المصلحين، ولن يعاقب الله تعالى -وحاشا لله ذلك- إنسانا يجهل الحكم أو أخطأ لأول مرة، والدليل القرآن الذي بين أيدينا، لكن الذي يتمادى في خطئه ويحرص على تحدي الخالق عز وجل سواء بالاستهزاء من حكمِه أو الاستخفاف بشرعِه، أو تجاهل عذابِه، فإن الردّ الإلهي قادم لا محالة عاجلا أو آجلا، ولن يكون أحد بمنأى من عذاب الله تعالى، نسأل الله السلامة.