مقال للدكتور ياسر احسان

مقال للدكتور ياسر احسان

 وقفات تدبرية في قصة البقرة

(الجزء الثاني)

In the story of Al Baqarah, deliberate pauses

( Part Two )

أ.م.د. ياسر إحسان رشيد

جامعة الأنبار/ كلية العلوم الإسلامية

قسم التفسير وعلوم القرآن

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذا الجزء الثاني من الوقفات التدبرية في قصة البقرة، وأسأل الله سبحانه أن يوفقني لبيان شيء من العبر والعظات الكامنة في هذه القصة العظيمة.

سبب استفسار بني إسرائيل عن أوصاف البقرة:

لعل من أسباب استفسار بني إسرائيل عن أوصاف البقرة هو أنهم لما استغربوا أمر الله لهم بذبح بقرة لعدم إدراكهم حكمة هذا الأمر ظنوا أنه لا يمكن أن تكون هذه البقرةُ بقرةً عادية كغيرها من البقر، بل لابد من أن تكون موصوفةً بصفات خاصة تميزها عن غيرها من البقر، فسألوه: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ أي: ما وصف هذه البقرة؟

وقولهم هذا فيه تقدُّمٌ بين يدي الله ورسوله، فإنهم ظنوا أن هذه البقرة يجب أن تكون لها أوصاف خاصة، ثم عملوا بموجب هذا الاعتقاد، وهو السؤال عن أوصافها الخاصة، فلَمْ يسألوه مثلاً: هل لهذه البقرة أوصاف خاصة؟ بل سألوه: ما هي؟ وهذا سؤال مبني على أنه وضعوا في حسبانهم أنه لابد من أن تكون هذه البقرة موصوفةً بصفات متميزة. وهذا الاعتقاد لم ينشأ عن دليل معتبر، وهو ينمُّ عن عدم تأدبهم مع الله وأنبيائه عليهم السلام، حيث كان الأجدر بهم أن ينتظروا البيان من الله طالما أن رسولَه بينهم، فإن الله لا يمكن أن يتركهم بدون بيان؛ هكذا ينبغي أن يظن المؤمنون بربهم سبحانه، وبناءً على ذلك يجب عليهم أن يمتثلوا الأمر كما هو ويأخذوا نصوص الشرع على ظاهرها ما لم يأتِ من الله تعالى أو رسوله بيانٌ مخالف للظاهر.

وفي هذا أيضاً إشارة إلى أنه على العبد أن يبادر بامتثال أوامر الله ونواهيه سواء عَلِمَ الحكمة منها أم لا، وهذا بخلاف منهج بني إسرائيل ومن تبعهم اليوم في هذا المنهج من المنتسبين إلى الإسلام الذين يطعنون في كثير من الأحكام الشرعية بحجة أنهم لم يعقلوا معانيها ومقاصدها، أو لأنهم ظنوا أنها تعارض المصلحة، كما لاحظنا عندما شن البعض الغارة على الإسلام بشأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليَنْزِعْهُ، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً)) [رواه البخاري في صحيحه برقم 3320]، فطعنوا في هذا الحديث الصحيح بدعوى أنه مخالف للمنطق والعقل، ولما جاء العلم الغربي بما يوافق الحديث خرست الأفواه واعتقلت الألسن فيها فلم ينطق أولئك بشيء.  والله المستعان.

سوء أدب بني إسرائيل وجفاؤهم مع رسل الله تعالى:

نلاحظ أن بني إسرائيل خاطبوا سيدنا موسى عليه السلام بقولهم: ((ادع لنا ربك)) وفي هذا الأسلوب من الجفاء وسوء الأدب في خطاب أنبياء الله عليهم السلام ما لا يخفى، فكان يمكن لهم أن يقولوا له مثلاً: (ادع الله) أو نحوها من العبارات التي ليس فيها هذا الجفاء. (ادع لنا ربك) وكأنه رب موسى عليه السلام دونهم. ومما يتصل بهذا الأمر ــــ أي: بجفاء بني إسرائيل وسوء أدبهم مع أنبياء الله ــــ قولهم مخاطبين رسول الله موسى عليه السلام بعد أن أمرهم بذبح البقرة: ((أتتخذنا هزواً)) وهذا فيه اتهام لرسول كريم من أولي العزم من رسل الله بخفة العقل والسَّفَه، حاشاه من ذلك، فكيف يليق هذا الخطاب مع رسول من أولي العزم من رسل الله؟!!

وانظروا أيضاً إلى قولهم خطاباً لموسى عليه السلام: ((الآن جئت بالحق)) وهذا من أقبح دركات سوء الأدب مع رسل الله الكرام، وكأن موسى عليه السلام لم يأتِ بالحق سابقاً، وكأن كلامه السابق غيرُ ذي فائدة، كما ذكر المفسرون، وهذا إصرار منهم على تسفيه سيدنا موسى عليه السلام. 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى..

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..