مقال للدكتور محمد نبهان ابراهيم

مقال للدكتور محمد نبهان ابراهيم

 (أثر الاعتدال في قبول النصيحة)

revival of heritage

مقال بقلم: أ.د محمد نبهان إبراهيم رحيم الهيتي – كلية العلوم الإسلامية

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وصحابته الغر الميامين، وآله الطيبين الطاهرين...

وبعد: فمن المعلوم من الدين بالضرورة، أن شريعة الإسلام جاءت لتحقيق مصالح العباد، والحفاظ على تلك المصالح، وإحاطتها بكل ما يمنع التعدي عليها، أو الإضرار بها.

وإن من أهم أساليب تحقيق المصالح في الإسلام، أن جعل أحكامه تبنى على مبدأ الوسطية والاعتدال، وأمر أتباعه أن يكونوا معتدلين في جميع أعمالهم وتصرفاتهم، التعبديةِ منها وغيرِ التعبدية، حيث أن مميزات ديننا الإسلامي عن غيره من الأديان أن تشريعاتِهِ ونظمَهَ بعيدةٌ كل البعد عن التفريط أو الإفراط؛ لكي تبقى تلك الأحكام مسيطرةً على شؤون الحياة كلها على مر العصور والدهور، مهما اختلفت أوضاع الناس أو تبدلت طبيعة عيشهم؛ لأنه لا يمكن أن تستقيم للبشر حياةٌ في ظل نُظمٍ أو تشريعات أو أفكارٍ تتسم بالتفريط أو الانفلات والفوضى، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الناسُ أن ينساقوا لنُظمٍ أو تشريعاتٍ أو أفكارٍ تتسم بالمغالاة والتشدد، وهكذا تتجلى أهمية خاصية الاعتدال الذي امتازت به شريعة الإسلام، وما تحتويه من أنظمةٍ وتعاليمَ وأوامر.

ولا يخفى على كل ذي لبٍ أن النصيحة _ التي أُمرنا أن نتسم بها _ هي من أهم وسائل انتشار الاسلام والدعوة إليه، وأنها كغيرها من الوسائل التي اعتمدها ديننا الاسلامي في نشر الفضيلة والاخلاق بين الناس.

جاء في الحديث عن عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لِلَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَامَّتِهِمْ، أَوْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»[1].

ففي هذا الحديث يُخبِر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن النصيحة هي الدِّين كلُّه؛ ذلك أنَّ الدِّين كُلَّه نُصْح؛ فالصَّلاة، والصِّيام، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وبَذْلُ السَّلام، وإحسان الكلام؛ كلُّ ذلك نصح، قال ابن رجب - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث: "هذا يدلُّ على أنَّ النصيحة تشمل خِصالَ الإسلام والإيمان والإحسان التي ذُكِرَت في حديث جبريل - عليه السَّلام - وسمَّى ذلك كلَّه دينًا"[2].

والنصيحة لها دور مهم في ترسيخ الأخلاق ونشر الفضيلة بين أبناء المجتمع، لكن ربما تنقلب النصيحة في بعض الأحيان إلى نتيجة عكسية لا تؤتي ثمارها المرجوة منها، فهناك من يرغب في إبداء النصح للآخرين لكنه يفتقر إلى بعض الوسائل المهمة التي من شأنها أن تجعل كلامه يستقر في أذن من يسمعه.

ومن أهم تلك الوسائل التي يجب أن يسلكها الناصح هي الاعتدال والوسطية في طريقة إيصال المعلومة.

فلا يجوز لمن يريد أن يقدم نصيحة أن يبالغ الناصح في التركيز على ما صدر ممن يريد نصحه من أخطاءٍ أو زلاتٍ، ولا يترك الأمر دون تلميح، حتى يعلم المقابل سبب النصيحة، فالاعتدال في النصيحة من أهم طرق قبولها.

لذلك: يجب أن تكون النصيحة سرّاً؛ لأنَّ النُّصح أمام الناس يولِّد ردودَ أفعال عكسية، ورُبَّما لا تقبل النَّصيحة، بل يزداد الأمر سوءًا.

يقول الامام الشافعي: " من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه"[3].

ثم أنشد قائلاً[4]:

تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي ******* وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ

فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ ******* مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ

وإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ******* فَلاَ تَغْضَبْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ

ختاماً على كل واحد منا أن يكون معتدلاً عند تقديمه النصيحة وأن لا يبالغ في الافصاح عن الخطء المرتكب؛ كي يحصل له مراده وتُقبلُ نصيحته.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ....



[1] أخرجه أبو داود في سننه: 4/286 رقم الحديث (4944)

[2] جامع العلوم والحكم: إبن رجب الحنبلي: 1/218.

[3] إحياء علوم الدين: الغزالي: 2/182.

[4] ديوان الشافعي: ص/56.