مقال للدكتور سليم حامد

مقال للدكتور سليم حامد

 حكم تحمل دية خطأ القاضي في الحكم

ruling the carrying blood money for the judge's mistake in ruling

بقلم: أ.م.د سليم حامد نصار

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن الشريعة الإسلامية شملت جميع شؤون الحياة فلم تترك جزئيةً من جزئيات المجتمع إلا وتناولتها سواء كان ذلك في جانب العبادات أو المعاملات، كما لم تقتصر على ما يتعلق بأحكام المعاملات المالية أو الأحوال الشخصية أو المعاملات الاقتصادية وإنما شملت كذلك أيضاً أحكام الجنايات وما يترتب عليها من آثار بل إنها أولت هذه الأحكام أهميةً خاصةً، فقد أوجبت على ولي الأمر تعيين القضاة لإقامة العدل بين الناس من خلال تطبيق النصوص الواردة في كتاب الله تعالى وسنة النبي e حيث قال تعالى: )وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ( وقوله e: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاضٍ عرف الحق فجار متعمداُ فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علمٍ فهو في النار)) لذا فإن القضاء له مكانته في الإسلام وله قدسيته لأنه من خلاله يرجع الحق لأهله ويبطل الباطل فتستقر البلاد ويأمن العباد، وعلى مر العصور الإسلامية كان القاضي هو الذي ينصف المظلوم من الظالم ويثبت للناس حقوقهم ولهذا لم تقم دولةٌ إسلاميةٌ إلا وأول ما يعين لها القضاة على مختلف ولاياتها.

ومع هذه القدسية للقضاء ومكانته، والأهمية البالغة التي أولتها الشريعة الإسلامية له فإن هذا لا يعني عصمة القاضي من الخطأ بل ذلك واردٌ منه باعتباره بشراً فتقع منه الأخطاء التي من الممكن وقوعها من أمثاله، سواء كان الخطأ عائداً إلى وسائل الإثبات كالشهود أو الإقرار أو إهمال وثيقة، أو يعود إلى اجتهاد المجتهد نفسه، وعليه فإذا وقع منه الخطأ لأي سببٍ مشروعٍ من الأسباب المتقدمة فهل يتحمل مسؤولية خطأه لوحده؟ أم إن دية خطأه تتحمله عاقلته باعتباره أحد أفرادها ووقع الضرر منه خطأً، أم إن خطأه في القضاء يتحمله بيت مال المسلمين باعتباره أحد تابعيها ويعمل لصالحهم، وبالرغم من أن هذه المسألة تعد جزئيةً من جزئيات عمل القضاء فإن الشريعة الإسلامية لم تغفل هذا الجانب، فتناول فقهاء المسلمين خطأ القاضي في القضاء والأسباب التي يمكن أن يخطأ فيه القاضي وما يترتب على ذلك من آثار ، وبعد الاطلاع على اجتهادات الفقهاء في المصادر والمراجع الفقهية الخاصة بهذه المسألة تبين لنا ان الفقهاء اتفقوا على وجوب الدية في خطأ القاضي هذا، لأنهم اختلفوا فيمن يتحمل دية خطأه، هل يتحمل ذلك ذوو قرابته وعصبته باعتباره أحد أفرادها فيتحملون خطأه الذي يقع منه في مجال عمله أيضاً، أم يتحمل دية خطأه بيت مال المسلمين باعتباره مجتهداً اعتمد في القاضي على ما توفرت لديه من أدلةٍ لإقامة الحكم، وباعتبارٍ آخر أنه يمثل الدولة التابع لها والتي نصبته قاضياً يحكم بين الناس بالعدل، - وقد تقدم – أن الشريعة الإسلامية لم تغفل خطأ القاضي المبني على الاجتهاد وإنما أخذته بنظر الاعتبار فإن الشارع الحكيم جعل للمجتهد المصيب أجرين عند إصابته الحق، وأجراً واحداً عند عدم إصابته ذلك، وذلك لأنه بذل جهداً في الوصول إلى الصواب حيث أنه اعتمد على ما لديه من أدلةٍ في سبيل إحقاق الحق، والوصول إلى حكم الله تعالى حسب اجتهاده. ونحن هنا نبحث الأثر المترتب على خطأ القاضي في الحكم، بمعنى أنه قد قضى في الحكم وأصبح الحكم باتاً ونفذ ذلك الحكم وترتب على هذا الخطأ ذهاب نفسٍ أو تلف عضوٍ أو منفعته ثم تبين أنه قد أخطأ في الحكم وكان خطأه هذا مبنياً على اجتهاد ونظرٍ في وسائل الإثبات وما لديه من أدلةٍ أخرى. وهذا هو صلب ما نريد بيانه وهو التوصل الى الآثار المترتبة على ذلك، فالفقهاء اختلفوا في من يتحمل دية خطأ القاضي على مذهبين :

المذهب الأول: أنه إذا أخطأ القاضي في حكمه فأدى خطأه إلى إتلاف نفسٍ أو عضوٍ أو منفعته فدية خطأه تقع على بيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله وهو قولٌ مرجوحٌ للمالكية والشافعية وروايةٌ عن الإمام أحمد وإليه ذهب الزيدية والإمامية.

المذهب الثاني: أنه إذا أخطأ القاضي في حكمه فأدى خطأه إلى إتلاف نفسٍ أو عضوٍ أو منفعته فدية خطأه تقع على عاقلته.

وهو مشهور قول المالكية، والشافعية، وروايةٌ أخرى عن الإمام أحمد.

 

وبذلك يتبين لنا مدى اهتمام الفقهاء المسلمين بهذا الجانب ولم يتركوه من غير بحث وبيان .

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .