جهود علماء الامة ومصلحيها في نبذ العنف واشاعة السلم المجتمعي- الجزء الاول

جهود علماء الامة ومصلحيها في نبذ العنف واشاعة السلم المجتمعي- الجزء الاول

 جهود علماء الامة ومصلحيها في نبذ العنف واشاعة السلم المجتمعي- الجزء الاول

ا.د عبد الرحمن حمدي شافي

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد فان اعظم الاعمال ما نسبه الله تعالى لنفسه وباشره بفعله فان الاصلاح بين الناس وافشاء الامن والطمأنية في المجتمعات الاسلامية مطلوب من المسلم ونوه سبحانه الى انه يفعله بين عباده  في الدنيا ويوم الحساب (واذكروا نعمة الله عليكم اذ كتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا ) (والف بين قلوبهم لو انفقت ما في الارض ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم)  بل حتى بين الزوجين يقول سبحانه (ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما) هذا في الدنيا اما في الاخرة فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ...اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين. يقصد عند استيفاء الحقوق في المظالم يوم الحساب . والحديث صحح الحاكم اسناده

لذلك نتشرف ان نعمل عملا بدأ الله تعالى به بنفسه وطبقه رسوله صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي في كثير من مظاهره كما سياتي

استطيع ان اجزم ان اسباب التناحر والخصام ين المسلمين انما كان دافعها التعصب للجماعة او القبيلة او المذهب او الراي على الرغم من ان الشارع نهى عن ذلك اشد النهي حتى قال عمن فعل ذلك (ليس منا من دعا الى عصبية اوقاتل على عصبية)  ووصفها بانها منتنة .

لكن ما استطاع المسلمون على مر العصور التخلص منها وكانوا ضحاياها ين الحين والاخر وقد قالها عليه الصلاة والسلام لافاضل من الصحابة (انك امرؤ فيك جاهلية) وقد كادت ان تعمل السيوف في رقابهم لما دعوا بدعواها لولا وجوده صلى الله عيه وسلم

والسبب وراء ذلك انها دعوة ابليس واستماتته في تحقيقها وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة رن إبليس رنةً اجتمعت إليه جنوده. فقال: ايأسوا بأن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم) . وأصله في صحيح مسلم ج4/ص2166 عن جابر قال سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقول (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)

واسرع وسيلة الى الفتنة في الدين : الاحتراب والتناحر والتفرق وما كان وراءه من تطرف وغلو نتج عنه ما نتج من عنف وإرهاب فإننا من حيث لا نشعر نؤكد على حقيقة لا يمكننا انكارها وهي كوننا مجزئين منقسمين بل متناقضين وإن جمعنا دين واحد وعلى مر العصور تجد من ينفخ ويؤجج نار الفرقة والعداوة بين المسلمين

ومن هنا بدأت جهود المصلحين من هذه الامة وعلمائها في ارساء قواعد الصلح وبث روح الاخاء ونبذ ما يفرق الكلمة واولهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت قبل قليل

-        حينما اطفأ نار الحرب التي كادت ان تحصل بين الانصار

-        وحينما عتب البعض انه لم يحصل على الغنائم فيهدؤهم بقوله اترضون ان يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون انتم برسول الله صلى الله عليه وسلم

-        وحينما كان يسدد دين من مات وعليه دين (من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فالي او علي

-        وحينما يدي او يدفع من ماله دية القتيل اذا جهل القاتل

وعلى اعتاب انقضاء العصر النبوي استمرت جهود المصلحين المسلمين من اولي الامر وغيرهم ويطالعنا اولها اصلاح سيدنا الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما بين المسلمين وانهائه حالة الاحتراب

ومحاولة السيدة عائشة الاصلاح بين المتحاربين ثم موقف سيدنا علي من السيدة عائشة واكرامها بعد انتهاء موقعة الجمل وجهود سيدنا ابن عباس في اقناع الخوارج الذين تجمعوا لقتال سيدنا علي واسفرت عن تراجع اكثرهم وموقف سيدنا علي من جرحاهم ونسائهم واسراهم حينما منع ان تسبى نساؤهم وان يذفف على جريحهم ورغم كل ما حصل حينما سئل عنهم أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا ـ قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة، اخواننا بغوا علينا وقال لهم: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا

كل ذلك تاليفا للقلوب وانهاءً للصراع الذي بدأ

ثم موضوع رد المظالم التي قامها عمر بن عبد العزيز حتى كان ينزع الاراضي والعقارات من اقرب الناس اليه ليردها الى اصحابها ويطفيء نار الفتنة والحقد

ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة فاراد أن يميل بالناس الى الهدوء والدعة والسكون بدل الاحتراب والعداوة بعد ان طالت الحرب بين المسلمين فاذا به يلاقي احدهم يقول له فلان يرى راي الروافض فعليك به وياتيه اخر ان فلانا يرى راي الخوارج فعليك به يعني ما زالوا يبثون روح الاختلاف والتشرذم والعداء فقال لهم ليهدئهم (قضى الله أن لا تزالوا مختلفين وسيحكم الله تعالى بين عباده) فأمنه الناس .

ومما يلفت النظر ان كافة المجتمعات الاسلامية وقع فيها هذا الغلو وظهر فيهم هذا النوع من الشباب الذي لم يعِ جيدا المنهج الذي ارادته الشريعة السمحاء في النصح والحكم على الاخرين وتحضرني هنا قصة ذكرها الامام الشهيرالحافظ عبد الرحمن بن بطة مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا دعاني إلى متابعته على ما يقوله وتصديق قوله والشهادة له

فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان (وهو متوفى 387 هـ) سماني موافقا وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا

وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيا

وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها

وإن كان في الرؤية سماني سالميا

وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا

وإن كان في الأعمال سماني قدريا

وإن كان في المعرفة سماني كراميا

وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيا

وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا

وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريا

وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيا

 وإن أجبت بتأويل سماني أشعريا

وإن جحدتهما سماني معتزليا

وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعيا

وإن كان في القنوت سماني حنفيا

وإن كان  في القرآن سماني حنبليا

وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا طعن في تزكيتهم

ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ما يشتهون من هذه الأسامي ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ولن يغنوا عني من الله شيئا .  وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم

هذه الاوصاف ولّدت احقادا بين المسلمين

روى ابن حجر في (الدرر الكامنة (1/60) كان لابن القيم ولد اسمه برهان الدين  وقع بينه وبين ابن كثير رحمهم الله تعالى جميعاً منازعة، فقال له ابن كثير:أنت تكرهني لأنني أشعري. فقال له: لو كان من رأسك إلى قدميك شَعْر ما صَدّقك الناس في قولك أنك أشعري وشيخك ابن تيميّة ! 

والامر قديم بين المسلمين قلت ما نجا مجتمع مسلم من بعض تلك المشاكل "قال ابن عبد البر عن أم المؤمنين صفية : ( وروينا أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث اليها عمر فسألها فقالت أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به يوم الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحما وأنا أصلها قال ثم قالت للجارية ما حملك على ما صنعت قالت الشيطان قالت اذهبي فأنت حرة)

 فانظر كيف يحرك الشيطان دوافع الشر بين المسلمين ويضع الحواجز بينهم .

وقد كانت لاهل الحجاز نظرة غير طيبة عن اهل العراق  يقال حضر أبو حنيفة درس الإمام مالك ولم يعرفه فألقى الإمام مالك سؤالا على أصحابه فأجابه أبو حنيفة فقال من أين الرجل قال من أهل العراق قال من أهل بلد النفاق والشقاق فقال تأذن لي أن أقول شيئا من القرآن قال نعم فقرأ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل العراق مردوا على النفاق فقال الإمام مالك ما قال الله هكذا فقال أبو حنيفة كيف قال الله قال ومن أهل المدينة فقال الحمد لله الذي حكمت على نفسك ووثب من مجلسه فلما عرفه أكرمه

ومن هنا بدأت جهود علماء الامة في توظيف هذا الاختلاف في الراي لمصلحة الحق ونفع المسلمين بدل تناحرهم فالخلاف في الرأي حتى الراي الشرعي او العلمي ولد بعض النفور لكن المصلح يحول السلبيات الى ايجابيات هدفه خدمة الدين لا الانتصار للراي والجماعة

يقول ابن حزم ـ رحمه الله ـ: (لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعتُ بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقّدَ طبْعي، واحتدمَ خاطري، وحمي فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت تلك التواليف) فانظر كيف وظف احتكاكه بأهل الجهل لتطوير علمه ولم يدفعه جهلهم إلى الانغلاق .

وقال الشاطبي عن هذه الاراء المختلفة (لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين . ثم روى قول ابن المبارك لجماعة من الكوفة ناظروه : فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا خيارا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام ! فبقوا وانقطعت حجتهم)

بل الواجب ان لا ينقلب الخلاف في الرأي إلى عداء شخصي ويحضرني هنا ما حصل بين الامام الشافعي وتلميذه : قال يونس بن عبد الأعلى ( ناظرت الشافعي يوما في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال لي يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة!)

وما حصل بين اسحاق بن راهوية والشافعي في اخذ الاجرة من بيوت مكة وكان كل واحد يخالف راي الاخر فيها والعجب انه بعد حين من المناظرة رجع اسحاق الى قول الشافعي ورجع الشافعي الى قول اسحاق

إن التمسك الحقيقي بالدين والعودة إلى معينه الصافي (الكتاب والسنة) يقتضي من المسلم الرأفة والرحمة بالناس والتعايش مع المخالف والرفق بالمعاند ونبذ التشدد والغلو مع الاخرين والتأكيد على ضمان الامن والاستقرار والسلام لعموم افراد المجتمع مهما كانت دياناتهم أو اختل التزامهم . وهذا التآلف مطلوب بين المسلمين مع بعضهم ومع من يعيش معهم من غير المسلمين ولذلك يقول غوستاف لوبون في حضارة العرب ص128 ( ان المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة على دينهم وروح التسامح نحو اتباع الاديان الاخرى ) لهذا انتشر الاسلام بين الملايين ممن لم تصلهم سيوف المسلمين تأثرا بعدالته وسماحته فصاروا اهله ودعاته وأخلص ابنائه

وأذكر هنا بموقف الامام الاوزاعي حينما وقف بوجه قرار المنصور ضد عموم مسيحيي جبل لبنان لما ثار بعضهم فاراد معاقبة الجميع بطردهم من مناطقهم فاصر الاوزاعي على تغيير الحكم والعفو عن الجميع ولذلك أثناء الحروب الصليبية دمّرت كلّ المساجد والزوايا ببيروت إلاّ بيت الاوزاعي ومسجده وربما كان مكافاة من الصليبيين له على موقفه المتسامح

(البلاذري فتوح البلدان 1/167){ خرج بجبل لبنان قوم شكوا عامل خراج بعلبك فوجه صالح بن على بن عبد الله بن عباس من قتل مقاتلتهم وأقر من بقي منهم على دينهم وردهم إلى قراهم وأجلى قوما من أهل لبنان فحدثني القاسم بن سلام أن محمد بن كثير حدثه أن الأوزاعي كتب إلى صالح رسالة طويلة حفظ منها : فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى   (ألا تزر وازرة وزر أخرى)   وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فإنه قال من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه }

وليس الامرغريبا فلم يصل سيدنا عمر في كنيسة القيامة حتى لا ياخذها المسلمون من النصارى بعده واراد ان يبصق فلم يفعل حتى خرج من الكنيسة فقال له سيدنا ابوعبيدة بن الجراح لم لم تبصق فيها قال ذلك مكان يذكر فيه اسم الله كثيرا

وكانت القاعدة في الاسلام ان لا تهدم كنائس النصارى القديمة في بلدان المسلمين لكن لا تشيد لهم كنائس جديدة ورغم ذلك افتى الامام ابو حنيفة بجواز انشاء الجديد في قرى العراق والسبب (مساعدتهم في الفتح للعراق فقد كان نصارى العراق يدلون المسلمين على المناطق الضحلة في الانهار ليتمكنوا من عبورها بسهولة اثناء المعارك)

ولذلك يقول سبحانه (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) قال سيدنا علي لولا دفع الله الناس باصحاب سيدنا محمد لهدمت معابد غير المسمين لكن الصحابة حافظوا عليها والدليل ان اثار الامم السالفة مازالت تملا الامصار الاسلامية التي فتحها الصحابة الى يومنا الحاضر وهم شاهدوا تلك المعابد ولم يتعرضوا لها

وقبل فترة شاهدت معابد المجوس قبل الاسلام على حالها في دهوك وكنائس النصارى واثار القرون الاولى مازالت شاهدة على عدل الاسلام وعدل حملته الاصليين من الصحابة ومن تبعهم احسان كل ذلك توطيد للسلم المجتمعي وللحفاظ على امن الناس وحرماتهم وعدم اثارة الفتن

ويطالعنا هنا الحديث المروي في صحيح مسلم يوصي فيه عليه الصلاة والسلام بنصارى مصر حينما يقول (انكم ستفتحون ارضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا باهلها خيرا فان لهم ذمة ورحما) يقصد بالرحم قرابتهم من السيدة مارية القبطية ومنهم السيدة هاجر ام النبي اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام وهو من اجداده عليه الصلاة والسلام